آراء وأقلام

زيد بن كمي يكتب: «السّلاح المنفلت تدميرٌ للدول»

الخميس 25 ديسمبر 2025 - 07:26 ص
زيد بن كمي
زيد بن كمي

عادَ ملفُّ حصرِ السّلاح بيدِ الدولةِ إلى واجهةِ المشهد العراقي، لا بوصفه نقاشاً نظريّاً، بل كاختبارٍ مباشرٍ لمعنَى الدَّولةِ وحدودِ سلطتِها وهيمنتِها.

القَبولُ المشروطُ الذي أبداه بعضُ قادةِ الفصائل، والرفضُ القاطعُ الذي أعلنَه آخرون، كشفَا عن أنَّ المسألةَ لم تعد تتعلَّق بترتيباتٍ أمنيةٍ عابرة، بل بسؤالٍ جوهريّ ظلَّ مؤجلاً سنواتٍ: مَنْ يملكُ حقَّ القوة؟ وَمَنْ يملكُ حقَّ القَرار؟

لكنَّ مَا جرَى في بغدادَ ليسَ شأناً عراقياً صِرفاً، بل مرآةٌ لأزمةٍ أوسعَ تضربُ فكرةَ الدولةِ فِي الشَّرق الأوسَط منذُ عُقود.

فِي العِراق، تَقدَّمَ النّقاشُ هذه المرَّةَ تحتَ ضغطٍ سياسيّ وأمنيّ متزايد، وتحركاتٍ دوليةٍ لا يمكنُ فصلُها عن حساباتِ الاستقرار الإقليمي، لكنْ ينبغي أنْ يُنْظَرَ إلى أنَّ جوهرَ الأزمةِ أعمقُ من زيارةِ مبعوثٍ أو رسائلِ ضغط، فالدولةُ التي تسمح بتعدُّدِ السّلاح، تسمحُ ضِمناً بتعدُّدِ السُّلطات، وحينَ يُصبح السّلاحُ جزءاً من المُعادلةِ السّياسية، تتحوَّلُ الدَّولةُ من مرجعيةٍ عليا إلى وسيطٍ هَشٍّ بين قوى متنافسة، لذلكَ بدا الارتباكُ داخلَ الفصائل تعبيراً عن مأزقٍ حقيقي... السّلاحُ الذي كان يُنظر إليه بوصفِه مصدرَ قوةٍ، باتَ عبئاً يهدّدُ مستقبلَ الدّولة، ويضعُ الجميعَ أمامَ احتمالاتٍ مفتوحة.

الصُّورةُ ذاتُها تتكرَّرُ في لبنانَ، وإن اختلفتِ التَّفاصيل، سلاحُ «حزب الله» الخارجُ عن إطارِ الدَّولة، لم يعدْ ملفاً دفاعياً محصوراً في خطابِ المقاومة، بل تحوَّل عاملاً بنيويّاً في تعطيلِ مؤسساتِ الحكم، وهنالكَ تقاريرُ دوليةٌ عديدةٌ ربطت بوضوحٍ بينَ هذا الواقعِ وبينَ الانهيارِ الاقتصاديّ والشَّللِ السّياسيّ.

الدولةُ اللبنانيةُ فقدتْ قدرتَها على اتّخاذِ قرارٍ سياديّ مستقلٍّ، والسّلمُ الاجتماعيُّ باتَ قائماً على توازناتٍ قسرية لا على ثقةٍ جامعة، ومع غيابِ احتكارِ الدولةِ السلاحَ، تعمّقَ الانقسامُ المجتمعيُّ، وأصبحت كلُّ أزمةٍ سياسية مرشحةً للانفجار، لأنَّ ميزانَ القوةِ لا تحكمه المؤسساتُ، بل موازينُ السلاح.

في اليمن، تبدو النَّتائجُ أكثرَ قسوةً ووضوحاً، انتشارُ السلاحِ خارج الدولة لم يكن عرضاً جانبياً للحرب، بل أحد أسبابِ انهيار الدولة بالكامل، تعدُّدُ القوى المسلحة، من الحوثيين إلى تشكيلاتٍ أخرى، قضَى على أيّ إمكانيةٍ لبناء سلطةٍ موحَّدة، ومع الزَّمنِ لم يُطلِ السّلاحُ أمدَ الحرب فحسب، بل دمَّر النسيجَ الاجتماعيَّ، وحوّل الاقتصادُ إلى اقتصادِ حرب، وأغلقَ البابَ أمام أيّ مسارٍ تنمويّ.

المشهدُ ذاتُه يتكرَّرُ بدرجاتٍ متفاوتةٍ في السودان وليبيا، وفي مناطقَ من شمال شرقي سوريا، حيث تحوَّلت البنادقُ إلى بديلٍ عن السياسة، وإلى عائقٍ دائمٍ أمام الاستقرار.

لم يَعُدِ السّلاحُ الخارجُ عن إطارِ الدَّولةِ مجردَ إشكاليةٍ أمنيَّة، بل هو تهديدٌ مباشرٌ لكيان الدولة نفسِها ولمفهومِ السّلمِ الاجتماعي، فحينَ تفقدُ الدولةُ احتكارَها لاستخدام القوة، لا تخسرُ السيطرةَ على الأمن فحسب، بل تتآكلُ قدرتُها على الحكم، وعلَى حمايةِ العقدِ الاجتماعيّ الذي يمنحُها الشرعيةَ. عندَ هذه النقطةِ، يتحوَّلُ السّلاحُ من أداة يفترضُ أن تحميَ الدولةَ إلى عامل يقوضُها من الداخل، ويعيدُ تشكيلَ الولاءاتِ علَى أساسِ القوَّة لا القانون.

نحن هنَا لا نتحدَّثُ عن بنادقِ صيد، لكنَّنا نتحدَّث عن أسلحةٍ جبَّارةٍ ثقيلةٍ ومعقَّدة بينَ النَّاسِ وخارجَ نطاق القانون، وهو تهديدٌ واضحٌ للدولة، إذ يفرضُ هذا الأمرُ أنَّ هناك قوةً أخرى موازيةً للدولة، أو دولة أخرى موازية لها، وهذا مَا يجعلُ انتشارَ السِّلاح من أبرز مؤشراتِ الفشلِ المؤسسي للدول، فالدولةُ العاجزةُ عن ضبطِ السلاح، تعجزُ بالضرورةِ عن فرضِ القانون، وتفشلُ في توفيرِ بيئةٍ آمنةٍ ومستقرةٍ لمواطنيها، وبدلاً من أن تكونَ المؤسساتُ الرسميةُ المرجعَ الوحيدَ لحلِّ النّزاعات، تحلُّ محلَّها القوةُ المسلحةُ، فتتحوَّلُ الخلافاتُ السياسيةُ والاجتماعيةُ إلى مواجهاتٍ، ويصبحُ المدفعُ الرّشّاشُ هو الآمرَ النَّاهي في البلاد.

تشير تقاريرُ البنكِ الدولي وبرامجُ الأمم المتحدة المعنيةُ بالنّزاعات إلى علاقةٍ مباشرةٍ بين انتشارِ السلاح خارجَ إطار الدولة وتصنيفِ الدول «هشةً» أو «فاشلة»، فهذه الدولُ تعجزُ عن جذبِ الاستثمار، فرأسُ المال بطبيعته يهربُ من البيئاتِ غير المستقرة وغير الآمنة، وبذلك يكون مردودُ هذا كارثياً على البلدان، وهذا أمرٌ بادٍ للعيان نشاهدُه في كثير من البلدان الهشة، لأنَّ اقتصاد العنف يزاحم الاقتصاد الرسمي، ويعيد توجيهَ الموارد نحو الصّراع بدلاً من التنمية، فتدخل الدولة في حلقةٍ مفرغة لا تنتهي.

الخلاصة؛ لا يمكن النَّظر إلى حصر السلاح بيد الدولة على أنَّه خيار سياسيّ قابل للأخذ والرَّد، بل هو شرطٌ أساسيٌّ لبقاء هيبةِ الدولة ذاتِها، والتجاربُ المقارنةُ تؤكد أنَّ أيَّ إصلاح سياسيّ أو اقتصاديّ محكومٌ عليه بالفشل، ما لم تُستعدْ سيادةُ الدَّولةِ على أدواتِ العنف، فالسّلاح خارجَ حيازةِ الدولة لا يحمِي المجتمعاتِ ولا يصونُ السّيادة، بل يفتّتُها. وحدَها الدولةُ التي تحتكرُ السّلاحَ وتُخضعُه للقانونِ والمساءلةِ، وهي القادرةُ على نقلِ المجتمعِ من الفوضَى إلَى الاستقرار.

نقلًا عن صحيفة الشرق الأوسط