تشرفت بحضور مؤتمر إدارة المخاطر والطوارئ واستمرارية الأعمال في نسخته الرابعة الذي عقد في الرياض في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وتقيمه الأمانة العامة لمجلس المخاطر الوطنية. وهو مؤتمر سنوي يُعدّ من أبرز الفعاليات المتخصصة في إدارة المخاطر التي تسلط الضوء على كيفية تعزيز جاهزية المؤسسات في مواجهة الانقطاعات والمخاطر المتزايدة، وضمان استمرارية الأعمال وصمود سلاسل الإمداد في بيئة عالمية تتغير بوتيرة غير مسبوقة.
وقد تميَّزت النسخة الرابعة بمستوى عالٍ من التنظيم، ونوعية رفيعة من الخبراء والمتحدثين وصُنّاع القرار وقيادات الأجهزة والمؤسسات الوطنية والإقليمية والعالمية، الذين استعرضوا أفضل المنهجيات والممارسات والتجارب التي أسهمت في تعزيز الجاهزية للتعامل مع تعطل الأعمال أو انقطاعها، واختبار خطط الاستجابة والتعافي. وقد كان من بين المتحدثين البارزين الدكتور ريدان السقاف، نائب المدير الإقليمي لمكتب الأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث، الذي أعجبني طرحه حول أهمية الانتقال من إدارة الكوارث إلى تقليل المخاطر وبناء الجاهزية الاستباقية، في إطار يتسق مع المعايير الدولية وإطار سنداي. وقد تشرفت بفرصة الحديث الجانبي معه، والاستفادة من رؤيته حول أهمية دمج تقليل المخاطر في السياسات التنموية، وربط الجاهزية بالحوكمة والبيانات وصناعة القرار. كما برزت مساهمات الخبراء اليابانيين الذين نقلوا تجربة اليابان في بناء مجتمع مرن وقادر على الصمود، إلى جانب متحدثين من منظمات دولية وجهات وطنية؛ ما منح المؤتمر ثراءً معرفياً ورسّخ مكانته كمنصة فكرية متقدمة في مجال إدارة المخاطر واستمرارية الأعمال.
هذا الزخم التراكمي الذي حققه المؤتمر عبر نسخه الأربع، منذ انطلاقته الأولى عام 2022، لا يعكس مجرد نجاح تنظيمي أو توسعاً في الحضور، بل يكشف عن تحول عميق في الطريقة التي أصبحت تنظر بها السعودية إلى إدارة المخاطر، بوصفها قضية دولة وأمن وطني لا ملفاً إقطاعياً. ففكرة إنشاء مجلس المخاطر الوطنية نفسه جاءت نقلةً نوعية في التفكير المؤسسي، نقلت التعامل مع المخاطر من نموذج «مجلس الدفاع المدني» القائم على الاستجابة للحوادث الميدانية، إلى نموذج استباقي يعالج الخطر بمنطق الأمن الوطني الشامل. وبالتالي، أصبح الهدف بناء منظومة وطنية مستدامة لرصد المخاطر الناشئة، وتحليلها، وتنسيق الجهود بين الأجهزة الحكومية، وضمان استمرارية الأعمال حتى في أصعب الظروف. ومن هنا بدأ ملف المخاطر يتخذ طابعاً جامعاً يضم البنية التحتية الحيوية، والصحة، والطاقة، والاقتصاد، والسيبرانية وسلاسل الإمداد، في اتساق واضح مع تعقيدات مشاريع «رؤية 2030»، ومع حقيقة أن المخاطر في الاقتصاد العالمي المترابط لم تعد تُدار بمنطق قطاع واحد، بل بمنطق دولة كاملة تبني الجاهزية قبل الصدمة لا بعدها.
ويمكن القول إن سؤال الجاهزية المؤسسية لم يعد ترفاً إدارياً أو ملفاً ثانوياً يستدعى عند وقوع الأزمات، بل تحول سؤالاً جوهرياً وحقيقياً وملحاً، يتصدر اليوم أجندة الدول والمنظمات الدولية. فتكلفة غياب الجاهزية لم تعد افتراضاً نظرياً، بل أصبحت باهظة الثمن اقتصادياً وأمنياً، وقابلة كذلك للقياس بالأرقام. فجائحة كورونا كشفت بوضوح عن أن ضعف الجاهزية الصحية وهشاشة سلاسل الإمداد، قادران على شل الاقتصاد العالمي خلال أسابيع وبتكلفة تريليونات الدولارات. وأتذكر هنا تصريحاً لوزير المالية الكندي حينها بيل مورنو، الذي قال بأن حكومته لم تتخيل يوماً أن تضطر إلى ضخ تريليونات الدولارات في وقت قياسي لمنع انهيار الاقتصاد، مؤكداً أن غياب الجاهزية كلّف أكثر بكثير من تكلفة الاستعداد المسبق، وهي خلاصة تنطبق على تجارب دول عدّة. ثم جاءت الحرب الأوكرانية لتؤكد هذا المفهوم، وأن نزاعاً إقليمياً واحداً بين دولتين قادر على إحداث تبعات كارثية على الأمن الغذائي والطاقة عالمياً، خصوصاً إذا كان البلدان يشكلان معاً نحو ربع صادرات الحبوب في العالم. لخص أحد الدبلوماسيين الأفارقة هذا التأثير المترابط حين قال، إن الحرب كانت في أوروبا، لكن الخبز اختفى في عاصمتنا. فثلثا ما يستهلكه الأفارقة من القمح، يستورَد من الأسواق الخارجية وخاصة من روسيا وأوكرانيا. كما كشف اعتماد أوروبا الطويل على الغاز الروسي عن أن الشتاء لم يعد مسألة طقس كما ذكر أحد المسؤولين الأوروبيين، بل قضية أمن قومي من الدرجة الأولى. وعلى المسار نفسه، شكّل التوتر الصيني - الأميركي الممتد منذ 2018 زلزالاً اقتصادياً أعاد تشكيل النظام التجاري العالمي؛ إذ يمثل البلدان معاً نحو 43 في المائة من الاقتصاد العالمي وفق تقديرات صندوق النقد الدولي، ولم تعد سلاسل الإمداد والتكنولوجيا المتقدمة أدوات تجارية فحسب، بل عناصر قوة سيادية. وتمثل تايوان قلب التوتر، بوصفها مركز الثقل العالمي في صناعة أشباه الموصلات، حيث تنتج عبر شركة TSMC وحدها أكثر من 60 في المائة من أشباه الموصلات المتقدمة عالمياً، ونحو 90 في المائة من الرقائق الأكثر تقدماً، وهي رقائق تدخل في الذكاء الاصطناعي والصناعات العسكرية والسيارات والاتصالات والأنظمة المصرفية ومراكز البيانات؛ ما يجعل السيطرة على تايوان أو تعطيل إنتاجها قادرة على شل الاقتصاد العالمي. وهو ما لخصه أحد الجنرالات داخل الإدارة الأميركية في عام 2022 حين كان يناقش قانون الرقائق، حيث قال: «إذا توقفت تايوان عن إنتاج الرقائق ليوم واحد، يتوقف العالم قبل أن تتوقف الحرب». وعلى المستويين الأمني والبنيوي، أثبتت الهجمات السيبرانية الكبرى خلال العقد الأخير أن ضربة رقمية واحدة قادرة على تعطيل بنى تحتية حيوية كالكهرباء والمياه والنقل والأنظمة المصرفية، وأن غياب خطط استمرارية الأعمال والنسخ الاحتياطية الفعالة قد يطيل زمن التعافي لأسابيع ويكبّد الدول والشركات خسائر بمليارات الدولارات، ويظل هجوم مايو (أيار) 2021 على شركة «كولونيال بايبلاين» مثالاً صارخاً؛ إذ استغرق الهجوم دقائق، لكنه شل إمدادات الوقود في الساحل الشرقي الأميركي، وأدى إلى طوابير البنزين وإعلان الطوارئ في ولايات عدة؛ وهو ما دفع الرئيس جو بايدن حينها للقول إن الهجوم لم تنفذه دولة، لكنه هزَّ أمن الطاقة الأميركي، في إشارة واضحة إلى أن الجاهزية لم تعد مسألة عسكرية تقليدية، بل قضية شاملة تمس الاقتصاد والأمن والحياة اليومية معاً.
وعليه، هذه التحديات والأزمات المتراكمة خلال العقد الماضي دفعت كثيراً من الدول والمنظمات الدولية، كالأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة ودولاً آسيوية متقدمة إلى إعادة تعريف الجاهزية بوصفها قدرة الدولة على ضمان استمرارية الخدمات الحيوية، وصمود سلاسل الإمداد وحماية البنية التحتية والاقتصاد في آن واحد، وهو ما تجسَّد في إطار سنداي الأممي، ومفهوم المرونة الجماعية الأوروبي، وإعادة الجاهزية الأميركية بعد كورونا، والنموذج الياباني للمجتمع المقاوم للكوارث.
أما دول المجلس وعلى رأسها السعودية، فقد أدركت منذ وقت مبكر أهمية الجاهزية؛ ما استدعى بناء منظومة خليجية مشتركة قادرة على التنسيق السريع وتبادل المعلومات واتخاذ القرار الجماعي عند الطوارئ. وفي هذا السياق، جاء قرار قادة المجلس في ديسمبر (كانون الأول) 2011 بإنشاء مركز مجلس التعاون لإدارة حالات الطوارئ واتخاذ دولة الكويت مقراً له، ليكون منصة إقليمية جامعة تعزز الجاهزية الخليجية من خلال الإشراف على خطط الطوارئ المشتركة وتنظيم التمارين والورش المتخصصة، وبناء قواعد بيانات للمخاطر، وترجمة مفهوم الاستجابة الجماعية من إطار سياسي إلى برامج عملية قابلة للتنفيذ عند الأزمات العابرة للحدود. وخلال السنوات الماضية ترجم المركز هذا التوجه إلى برامج عملية عبر الإشراف على الخطة الإقليمية للطوارئ الإشعاعية والنووية وتنظيم تمارين خليجية مشتركة بالتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، إلى جانب إعداد أول سجل خليجي للمخاطر مصنف حسب الأولوية ليكون مرجعاً استراتيجياً لخطط التأهب، بالتوازي مع تطوير غرفة عمليات إقليمية تربط أنظمة الإنذار المبكر وتعزيز الشراكات الدولية والأكاديمية في إطار بناء نموذج خليجي متكامل للجاهزية والاستجابة.
وأخيراً، يمكن القول إن التحول الذي تقوده السعودية عبر مأسسة إدارة المخاطر، والزخم الذي يجسده مؤتمر الرياض في نسخته الرابعة، والتكامل الذي تبنيه دول مجلس التعاون عبر مركز الطوارئ، كلها ملامح لمرحلة جديدة: مرحلة يُعاد فيها تعريف الأمن بوصفه قدرة على الاستمرار، وتُعاد فيها صياغة التنمية بوصفها قدرة على الصمود.
نقلًا عن صحيفة الشرق الأوسط