شهدت مدينة حلب السورية، أبرز المدن الاستراتيجية شمال البلاد، تصعيدًا أمنيًا جديدًا بين القوات الحكومية السورية و«قوات سوريا الديمقراطية – قسد»، بعد اندلاع اشتباكات بأسلحة خفيفة ومتوسطة في عدة أحياء، أبرزها الشيخ مقصود والأشرفية، والتي خلفت إصابات محدودة في صفوف المدنيين والأمن الداخلي.
وهذه الأحداث تأتي في ظل توترات متكررة بين الطرفين، وسط محاولات دبلوماسية وإقليمية لإعادة تطبيق اتفاقات سابقة، لا سيما اتفاق 10 مارس/آذار 2023، الذي يسعى إلى دمج «قسد» ضمن مؤسسات الدولة السورية.
التصعيد الأخير يعكس هشاشة الوضع الأمني في حلب، ويؤكد أن المدينة لا تزال ساحة صراع معقدة، يجمع بين المصالح العسكرية والسياسية والاقتصادية، مع تداعيات مباشرة على السكان المحليين والبنية التحتية.

اتهمت وزارة الداخلية السورية «قسد» بالهجوم المفاجئ على نقاط الحواجز المشتركة مع الجيش، ما أسفر عن إصابة عنصرين من قوات الأمن الداخلي والجيش، إلى جانب عدد من الإصابات بين عناصر الدفاع المدني والمدنيين. وأوضحت الوزارة أن قوات «قسد» أطلقت النار رغم الاتفاقات المبرمة، مستغلة مواقعها في حي الشيخ مقصود والأشرفية.
وأشارت وكالة الأنباء السورية الرسمية «سانا» إلى أن قوات «قسد» استهدفت محيط حي الأشرفية والمنطقة الممتدة من دوار شيحان حتى دوار الليرمون باستخدام رشاشات ثقيلة وقذائف آر بي جي والهاون، ما أدى إلى نزوح عشرات العائلات وعمال المصانع، وإغلاق طريق غازي عنتاب – حلب من جهة دواري الليرمون وشيحان.
تسعى الحكومة السورية من خلال هذه الرواية إلى التأكيد على أن «قسد» لا تلتزم بالاتفاقات الأمنية القائمة، وأنها تمثل تهديدًا لاستقرار المدينة، وهو ما يعكس مخاوف دمشق من فقدان السيطرة على مناطق استراتيجية.
ومن جانبها، نفت «قسد» مسؤوليتها عن التصعيد، مؤكدة أن قواتها تعرضت لهجوم من قبل فصائل مرتبطة بوزارة الدفاع السورية على حاجز في دوار الشيحان، وأن الهجوم يمثل استمرارًا لنهج تصعيدي يهدد أمن المدينة وحياة المدنيين.
وأضافت «قسد» أن فصائل الحكومة شنت هجومًا عنيفًا بالأسلحة الثقيلة والمتوسطة على أحياء الشيخ مقصود والأشرفية، وأن الأهالي وقوى الأمن الداخلي اتخذوا الإجراءات اللازمة لحماية أنفسهم. واعتبرت أن الحكومة في دمشق مسؤولة عن هذه الاعتداءات، مؤكدين أن الوضع يعكس عجز السلطات عن ضبط فصائلها المسلحة.
نفى الجيش السوري الهجوم على مواقع «قسد»، مؤكداً أن الأخيرة بدأت بإطلاق النار بشكل مفاجئ على نقاط انتشار القوات الحكومية، ما أدى إلى إصابات محدودة. وأكدت الوزارة أن قواتها ترد على مصادر نيران «قسد» ضمن نطاق الدفاع عن المدنيين والمنشآت الحيوية، مؤكدة التزامها بحماية المدينة واستقرارها.
أوضح المرصد السوري لحقوق الإنسان أن الاشتباكات استخدمت فيها أسلحة ثقيلة، من بينها رشاشات الدوشكا، مشيرًا إلى أن حاجزًا مشتركًا لقوات «الأسايش» (الأمن الداخلي الكردي التابع لقسد) وقوات الأمن العام عند دوار الشيحان تعرض لهجوم مسلح نفذته فصائل تتبع وزارة الدفاع السورية، ما أسفر عن إصابة عنصرين من قوات الأسايش بجروح متفاوتة. وأكد المرصد أن قوات الأسايش ردت على الهجوم مباشرة، بالتزامن مع استنفار أمني واسع في المنطقة.
وتسببت الاشتباكات الأخيرة في نزوح عشرات العائلات من أحياء الشيخ مقصود والأشرفية، ووقف أنشطة المصانع المحلية بشكل مؤقت، كما أغلق الطريق الدولي الرابط بين غازي عنتاب وحلب، وهو ما يفاقم الأزمة الإنسانية والاقتصادية في المدينة.
ويشير المراقبون إلى أن المدنيين هم الأكثر تضررًا من هذه التوترات، خاصة في ظل هشاشة البنية الأمنية والاقتصادية للمدينة، وغياب القدرة على حماية المنشآت الحيوية والخدمات الأساسية.
حلب، بوصفها العاصمة الاقتصادية لسوريا شمال البلاد، كانت دائمًا ساحة صراع بين القوى المحلية والفصائل المسلحة منذ بداية الحرب السورية عام 2011. وتسيطر الحكومة السورية على معظم الأحياء، بينما تحافظ «قسد» على وجود قوي في مناطق محددة، خاصة الأحياء الكردية مثل الشيخ مقصود.
وتعتبر «قسد» قوة محورية في شمال سوريا، مدعومة بالتحالف الدولي سابقًا في محاربة تنظيم «داعش»، وتمثل فاعلًا سياسيًا وعسكريًا مهمًا في الاتفاقات التي تسعى تركيا والحكومة السورية إلى تطبيقها. إلا أن استمرار الخلافات العسكرية والأمنية يعكس صعوبة دمج هذه القوى ضمن إطار الدولة السورية بشكل كامل.
وتزامنت الاشتباكات مع زيارة وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، إلى دمشق، حيث عقد مؤتمرًا صحفيًا مشتركًا مع نظيره السوري أسعد الشيباني في قصر الشعب.
وأكد فيدان ضرورة تنفيذ اتفاق 10 مارس/آذار بين الحكومة و«قسد»، مشددًا على أن اندماج قوات «قسد» في مؤسسات الدولة سيصب في صالح الجميع، ويحمي المدينة من التصعيد. وأشار إلى أن تركيا تتابع الوضع عن كثب، وأن أي انتهاك للاتفاق قد يؤدي إلى موجة نزوح جديدة وتدهور الأوضاع الإنسانية.
ومن جانبه، قال الشيباني إن الاتفاق يمثل إرادة توحيد الأراضي السورية، لكنه أقر بعدم وجود إرادة جدية من جانب «قسد» في تنفيذ بنوده، مؤكدًا أن الحكومة قدمت مؤخرًا مقترحًا لتحريك الاتفاق إيجابيًا، وتدرس الرد الوارد من «قسد».
وتتداخل الأبعاد الإقليمية مع التوترات في حلب، إذ تعتبر تركيا لاعبًا رئيسيًا في شمال سوريا، بينما تسعى روسيا وإيران إلى تعزيز نفوذ الحكومة السورية. في المقابل، تمثل الولايات المتحدة ودول التحالف الدولي دعمًا سابقًا لقسد، ما يعقد المشهد السياسي ويزيد من صعوبة الوصول إلى تسوية شاملة.
كما أن الاشتباكات الأخيرة تأتي في سياق توترات أوسع تشمل الحدود التركية السورية، وقضايا اللاجئين، وحركة التجارة بين شمال سوريا وتركيا، ما يجعل أي تصعيد محلي له انعكاسات إقليمية مباشرة.
حلب تواجه تصعيدًا جديدًا بين الجيش السوري و«قسد»، مع استمرار النزاعات حول السيطرة على الأحياء الحيوية.
المدنيون أكثر الفئات تضررًا، بسبب النزوح وتعطل الحياة اليومية والخدمات الأساسية.
الاتفاقات السابقة، مثل اتفاق 10 مارس/آذار، تواجه صعوبات في التطبيق بسبب اختلاف الرؤى والتصعيد المتكرر.
الوجود التركي والدبلوماسية الإقليمية يمكن أن يكون وسيلة للتهدئة، لكنه لا يكفي لضمان استقرار طويل المدى.
أي تصعيد مستقبلي قد يؤدي إلى تفاقم الوضع الإنساني ويزيد من مخاطر انتشار العنف في شمال سوريا.
الاشتباكات الأخيرة في حلب تعكس التعقيد الأمني والسياسي المستمر في المدينة، بين نزاع داخلي متعدد الأبعاد وتدخلات إقليمية ومحاولات دبلوماسية متكررة لإعادة التوازن.
وتظل المدينة محورًا حساسًا، تتشابك فيه المصالح العسكرية والسياسية والاقتصادية، ويحتاج الوضع فيها إلى مراقبة دقيقة وتنسيق أمني وسياسي قوي لتجنب أي انفجار أمني كبير.