بعد أكثر من عقد على اندلاع الاضطرابات الأمنية والانقسام السياسي في ليبيا منذ عام 2011، لا يزال الليبيون يترقبون أي تحرك جاد يعيد توحيد مؤسسات الدولة ويضع حدًا لحالة الانسداد السياسي التي غذّت فوضى السلاح وتمدّد الميليشيات، خصوصًا في العاصمة طرابلس ومناطق واسعة من غرب البلاد. ومع تعقّد المشهد وتشابك المصالح الداخلية والخارجية، برز العامل الشعبي خلال الفترة الأخيرة بوصفه عنصرًا مؤثرًا في معادلة الأزمة، ما أعاد طرح تساؤلات حول فرص حدوث انفراجة سياسية خلال عام 2026.
الشارع الليبي يدخل المعادلة
شهدت ليبيا خلال العامين الأخيرين مشاركة شعبية لافتة في الانتخابات البلدية التي جرت على ثلاث مراحل في مختلف أنحاء البلاد، وبلغت نسبة المشاركة فيها قرابة 70 في المئة، في مؤشر على رغبة مجتمعية واضحة في التغيير وتجاوز حالة الجمود. كما خرجت فعاليات شعبية في عدد من المدن تطالب بالإسراع في إجراء الانتخابات العامة وإنهاء المرحلة الانتقالية الطويلة.
هذا الحراك الشعبي تزامن مع إطلاق مسار أممي جديد للحوار السياسي، دُشّن من خلال الجلسات الافتتاحية للحوار المهيكل في 14 و15 ديسمبر 2025، في محاولة لإعادة تحريك العملية السياسية من القاعدة إلى القمة، بعد سنوات من التعثر.
أزمة بلا مرجعية جامعة
تعاني العملية السياسية في ليبيا من غياب مرجعية وطنية جامعة تحظى بتوافق الأطراف كافة، رغم تعدد الاتفاقات السياسية وجولات الحوار التي رعتها الأمم المتحدة وأطراف دولية. وغالبًا ما جرى خرق هذه التفاهمات تحت تأثير التدخلات الخارجية وتضارب المصالح، ما أسهم في تمديد المرحلة الانتقالية وتجاوز المواعيد الدستورية للاستحقاقات الانتخابية.
هذا الواقع أفرز انقسامات حادة بين الأجسام السياسية والأمنية، وخلق بيئة تسمح بالالتفاف على أي مبادرات للحل، في ظل تنازع الشرعيات وتعدد مراكز القرار على امتداد الجغرافيا الليبية.
الخلاف حول شكل الدولة ونظام الحكم
يمثل الخلاف حول توزيع الثروة والسلطة أحد الجذور الرئيسية للأزمة الليبية، وهو ما كان من بين دوافع الاحتجاجات ضد نظام معمر القذافي في 2011. فقد اتُّهمت السلطات آنذاك بتركيز عوائد النفط، القادم في معظمه من منطقة الهلال النفطي، في تنمية طرابلس والمنطقة الغربية على حساب أقاليم أخرى.
وفي سياق هذا التباين الجغرافي، عادت إلى الواجهة دعوات لإحياء النظام الفيدرالي بين أقاليم برقة وطرابلس وفزان، وهو النظام الذي كان قائمًا منذ تأسيس الدولة الليبية عام 1951 وحتى عام 1963. كما برزت أصوات داخل بعض الأوساط الأكاديمية والنخبوية تطالب بالعودة إلى النظام الملكي بوصفه مظلة تاريخية قد تساعد في تجاوز الانقسام.
صراع الإرادات وتنازع الشرعيات
أدى فشل إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في 24 ديسمبر 2021 إلى إعادة إنتاج الانقسام السياسي بين حكومتين في شرق البلاد وغربها، وأعاد مشهد الصراع على الشرعية إلى الواجهة. ويتسم المشهد الحالي بضعف الثقة بين الأطراف، وغياب قنوات تواصل فعالة، وتنازع الصلاحيات بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، إضافة إلى التباينات في العلاقة بين المجلس الرئاسي وحكومة طرابلس من جهة، والبرلمان من جهة أخرى.
كما انعكس هذا الخلاف على عمل اللجنة الدستورية المشتركة، وعلى مسار إقرار القوانين الانتخابية وتشكيل مجلس إدارة المفوضية الوطنية العليا للانتخابات، وهو ما يعرقل وضع جدول زمني واضح للاستحقاقات الانتخابية.
البعد القبلي والمناطقي
من التحديات البنيوية التي تعمّق الأزمة الليبية توظيف البعد القبلي والمناطقي في السياسات الإدارية والتنموية، بهدف تعزيز النفوذ السياسي أو إضعاف الخصوم. وقد أثارت بعض القرارات الحكومية الأخيرة، مثل إعادة ترسيم الحدود الإدارية بين بلديات في الغرب الليبي، اعتراضات مجتمعية واسعة، عكست حساسية هذا الملف وخطورته على السلم الاجتماعي.
تدخلات خارجية ومسار أممي جديد
تأتي التحركات الأممية الأخيرة بعد إخفاق عشرة مبعوثين أمميين في تحقيق اختراق حقيقي منذ 2011، وشغور المنصب لفترة قبل تعيين المبعوثة الحالية. وقد ساهم استقرار المصالح النفطية نسبيًا في تطبيع المجتمع الدولي مع حالة الجمود، قبل أن يتجدد الاهتمام الدولي على خلفية تحولات إقليمية ودولية، من بينها إعادة التموضع الروسي في المتوسط، وتنامي المخاوف الأوروبية من الهجرة والجريمة المنظمة.
هذه المعطيات دفعت البعثة الأممية إلى تبني مقاربة مختلفة، تركز على إشراك المجتمع والضغط على النخب السياسية، مع الاستفادة من تجربة الانتخابات البلدية باعتبارها نموذجًا قابلًا للبناء عليه.
سيناريوهات 2026
تتراوح التوقعات بشأن مستقبل الأزمة الليبية بين سيناريوهين رئيسيين. الأول يتمثل في عودة التوتر، في حال استمرار الخلاف حول القوانين الانتخابية وتأجيل الاستحقاقات، ما قد يكرّس الانقسام ويُبقي على واقع سلطتين متوازيتين. أما السيناريو الثاني، وهو الأرجح، فيقوم على هدوء نسبي تدعمه ضغوط دولية وتقدم في المسار الاقتصادي وتوحيد بعض المؤسسات، بما يتيح تحقيق اختراق محدود دون صدام مباشر.
آفاق مفتوحة على الاحتمالات
في المجمل، يبقى العامل الداخلي، خاصة إعادة ترتيب المشهد داخل المعسكرات المتنافسة، هو المحدد الأبرز لمسار الأزمة، رغم أهمية الدور الخارجي. وبينما يتزايد الوعي الشعبي بضرورة إنهاء المرحلة الانتقالية، لا تزال فرص إجراء الانتخابات خلال 2026 محدودة، في ظل استمرار انعدام الثقة وضعف تأثير الشارع على مراكز القرار. ومع ذلك، يظل تحقيق تقدم تدريجي في مسار التسوية السياسية احتمالًا قائمًا، وإن كان بطيئًا.