دراسات وأبحاث

أسطول الظل الروسي.. ناقلات نفط أم عيون استخباراتية في قلب المياه الأوروبية؟

السبت 20 ديسمبر 2025 - 12:18 ص
مصطفى سيد
الأمصار

تتصاعد المخاوف الأوروبية من تحوّل بعض ناقلات النفط الروسية، المعروفة باسم «أسطول الظل»، من مجرد أدوات للالتفاف على العقوبات الغربية إلى منصات خفية لتنفيذ أنشطة استخباراتية وأمنية داخل المياه الإقليمية الأوروبية. 

فمع استمرار الحرب الروسية الأوكرانية منذ عام 2022، باتت هذه السفن محل شك متزايد لدى أجهزة الاستخبارات الغربية، وسط معطيات تشير إلى وجود عناصر مرتبطة بالجيش والأمن الروسي تعمل سرًا على متنها، في إطار ما يُعرف بـ«الحرب الهجينة» التي تعتمدها موسكو لإرباك خصومها.

تقرير لشبكة «سي إن إن» الأمريكية، استند إلى مصادر استخباراتية غربية وأوكرانية، فتح الباب أمام تساؤلات خطيرة: هل تستخدم روسيا ناقلات النفط كغطاء للتجسس وجمع المعلومات داخل حدود أوروبا؟ وهل بات «أسطول الظل» ورقة ضغط أمنية وسياسية تتجاوز الاقتصاد والطاقة؟

ما هو «أسطول الظل» الروسي؟

منذ فرض العقوبات الغربية على صادرات الطاقة الروسية عقب اندلاع الحرب في أوكرانيا، لجأت موسكو إلى إنشاء شبكة واسعة من ناقلات النفط تُعرف إعلاميًا باسم «أسطول الظل».

ويضم هذا الأسطول مئات السفن، معظمها مسجل في دول بعيدة عن أوروبا، أو يعمل تحت أعلام مختلفة، مع تغيير الأسماء وبيانات الملكية بشكل متكرر.

وتنقل هذه السفن النفط الروسي من موانئ حيوية على بحر البلطيق والبحر الأسود إلى أسواق آسيوية، خاصة الهند والصين، في تجاوز واضح للعقوبات الغربية، ما يدر على الخزينة الروسية مئات الملايين من الدولارات سنويًا، ويمنح موسكو متنفسًا اقتصاديًا في ظل الضغوط المتزايدة.

واللافت في التقرير الاستخباراتي الغربي هو التحول من التركيز على الجانب الاقتصادي لأسطول الظل إلى البعد الأمني. 

إذ كشفت مصادر متعددة أن أفرادًا روسًا مرتبطين بالجيش وأجهزة الاستخبارات يعملون سرًا على متن بعض هذه السفن، خاصة في المياه القريبة من دول أعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو).

ووفقًا لهذه المصادر، استعانت بعض السفن بأفراد إضافيين قبل مغادرتها الموانئ بفترة وجيزة، غالبًا دون توضيح مهامهم، ما أثار الريبة لدى سلطات الموانئ وأجهزة الرقابة البحرية في عدد من الدول الأوروبية.

«موران سيكيوريتي».. الشركة الغامضة

أحد أبرز الأسماء التي وردت في التقارير الاستخباراتية هي شركة «موران سيكيوريتي» الروسية، وهي شركة أمنية خاصة فُرضت عليها عقوبات أمريكية عام 2024، بسبب تقديمها «خدمات أمنية مسلحة» لشركات روسية مملوكة للدولة.

وتشير المعلومات إلى أن عناصر «موران» شوهدوا على متن عدد من سفن أسطول الظل خلال الأشهر الستة الماضية، وغالبًا ما يكونون الروس الوحيدين بين أطقم تضم جنسيات آسيوية وإفريقية. وتربط الشركة علاقات وثيقة بالجيش الروسي وأجهزة الاستخبارات، كما أن قياداتها من ضباط الأمن الفيدرالي والبحرية الروسية السابقين.

وتذهب بعض المصادر إلى أن مهام هؤلاء الأفراد لا تقتصر على الحماية، بل تمتد إلى مراقبة طواقم السفن نفسها، خاصة أن أغلب القباطنة والبحارة ليسوا روسًا.

سفينة «بوراكاي».. نموذج يثير الشبهات

تُعد ناقلة النفط «بوراكاي» واحدة من أبرز الأمثلة التي سلطت الضوء على خطورة ما يحدث داخل أسطول الظل. السفينة، الخاضعة للعقوبات، غيّرت اسمها وتسجيلها عدة مرات خلال السنوات الثلاث الماضية، في محاولة واضحة لإخفاء هويتها الحقيقية.

في سبتمبر الماضي، صعد رجلان روسيان إلى متن السفينة في ميناء بريمورسك على بحر البلطيق، وجرى تعريفهما كـ«فنيين»، رغم كونهما الروسيين الوحيدين على متن طاقم يضم بحارة من الصين وميانمار وبنغلاديش.

وكشفت مصادر استخباراتية أن أحد الرجلين ضابط شرطة سابق، وله صلة بشركة «فاغنر» العسكرية الخاصة، بينما لا يملك أي منهما حضورًا رقميًا يُذكر، ما يعزز الشكوك حول طبيعة عملهما الحقيقي.

ولم تتوقف الشبهات عند هوية الأفراد فقط، بل امتدت إلى التجهيزات التقنية على متن السفن. فقد أشار مرشدون بحريون دنماركيون، يصعدون لمساعدة الناقلات في عبور المضائق، إلى وجود «هوائيات وصواري غير معتادة» لا تُستخدم عادة في السفن التجارية.

كما تحدث هؤلاء المرشدون عن سلوك عدائي من بعض الروس على متن السفن تجاه المفتشين والسلطات، وهو ما وصفوه بمحاولات واضحة للسيطرة وفرض الأمر الواقع.

وفي السياق ذاته، حذرت قائدة رفيعة في البحرية السويدية من أن بعض الناقلات المرتبطة بروسيا قد تكون مجهزة لأغراض تتجاوز الملاحة التجارية.

زاد من حدة القلق الأوروبي تزامن وجود «بوراكاي» قبالة السواحل الدنماركية مع رصد طائرات مسيّرة عطلت حركة الطيران في مطار كوبنهاغن، وحلّقت قرب قواعد عسكرية حساسة.

ورغم عدم وجود دليل قاطع يربط بين الناقلة وتلك المسيرات، فإن مصادر استخباراتية اعتبرت التوقيت «مثيرًا للريبة»، خاصة في ظل تصاعد أنشطة روسيا غير التقليدية داخل أوروبا.

بعد أيام من تلك الحوادث، صعدت القوات البحرية الفرنسية إلى متن «بوراكاي» قبالة سواحل بريتاني، عقب فشل السفينة في تقديم مستندات تثبت جنسيتها. وأسفر التفتيش عن العثور على روسيين اثنين ضمن الطاقم، جرى استجوابهما بشكل منفصل.

كما ألقت السلطات القبض على القبطان الصيني، ووجهت له لاحقًا تهمة «مخالفة التعليمات»، في خطوة تعكس تشددًا أوروبيًا متزايدًا تجاه سفن أسطول الظل.

وفي المقابل، نفت شركة «موران» هذه الاتهامات، واعتبر نائب مديرها أليكسي باديكوف أن فكرة إطلاق مسيرات من ناقلة نفط «غير منطقية تقنيًا». لكنه لم ينفِ وجود عناصر أمنية على متن السفن، مكتفيًا بالتأكيد على أن دورهم «حماية الملاحة».

غير أن خبراء استخبارات غربيين يرون أن النفي الروسي لا ينفي الشبهات، خاصة في ظل صعوبة إثبات الأنشطة السرية قانونيًا، وهو ما أشار إليه مسؤول استخباراتي دنماركي سابق بقوله: «الجميع يعلم أنهم يتلقون أوامر من الدولة الروسية، لكن إثبات ذلك مسألة بالغة التعقيد».

تعكس هذه التطورات تحول أسطول الظل من أداة اقتصادية إلى عنصر في استراتيجية روسية أوسع، تعتمد على الحرب الهجينة التي تمزج بين الضغط العسكري، والاقتصادي، والأمني، والاستخباراتي.

ويرى مراقبون أن موسكو تسعى من خلال هذه الأنشطة إلى اختبار ردود الفعل الأوروبية، وجمع معلومات حساسة، وبث القلق داخل دول الناتو، دون الانجرار إلى مواجهة عسكرية مباشرة.

في ظل غياب أدلة قاطعة، تبقى ناقلات «أسطول الظل» في المنطقة الرمادية بين التجارة المشروعة والأنشطة الاستخباراتية المحتملة. لكن المؤكد أن أوروبا لم تعد تنظر إلى هذه السفن باعتبارها مجرد ناقلات نفط، بل كجزء من مشهد أمني معقد يتطلب يقظة دائمة وتنسيقًا استخباراتيًا أوسع.

ومع استمرار الحرب في أوكرانيا، يبدو أن معركة الظل بين موسكو والغرب لم تعد تقتصر على ساحات القتال، بل امتدت إلى أعماق البحار، حيث تتحرك ناقلات النفط محمّلة بأسئلة أكثر من البراميل