منذ عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، رئيس الولايات المتحدة، إلى البيت الأبيض في يناير/كانون الثاني الماضي، دخلت القارة الأوروبية مرحلة جديدة من القلق السياسي وإعادة الحسابات الاستراتيجية، في ظل سياسات أمريكية أحدثت ارتدادات واسعة تجاوزت حدود واشنطن، وفرضت واقعًا مختلفًا على العلاقات عبر الأطلسي.
فعلى الرغم من المسافة الجغرافية التي تفصل بين الولايات المتحدة وأوروبا، فإن القرارات الصادرة عن الإدارة الأمريكية الجديدة اخترقت العمق الأوروبي، لتطال ملفات حيوية تتراوح بين الدفاع والتجارة والمناخ، وصولًا إلى الهوية السياسية ومستقبل الاتحاد الأوروبي. وبات واضحًا أن أي ملف أوروبي لم يعد بمنأى عن تأثير السياسات الأمريكية، التي حملت رسالة صريحة مفادها: الاعتماد على الذات أو تحمّل التبعات.
على الصعيد الاقتصادي، واجهت الشركات الأوروبية، وكذلك المستهلكون في دول الاتحاد الأوروبي، تداعيات مباشرة للرسوم الجمركية التي فرضتها الولايات المتحدة على عدد من السلع الأوروبية. وقد انعكس ذلك في ارتفاع تكاليف الإنتاج وتراجع تنافسية بعض الصناعات، خصوصًا في دول كبرى مثل ألمانيا وفرنسا، اللتين تعدان قاطرة الاقتصاد الأوروبي.

ولم تقتصر الصدمة الاقتصادية على الرسوم فقط، بل امتدت إلى ملفات التجارة الحرة، حيث ساد الغموض حول مستقبل الاتفاقيات الاقتصادية بين واشنطن وبروكسل، في ظل توجه أمريكي أكثر انغلاقًا، ما دفع المفوضية الأوروبية إلى البحث عن أسواق بديلة وتعزيز الشراكات مع قوى اقتصادية أخرى في آسيا وأمريكا اللاتينية.
في ملف المناخ، تلقّت الحركات البيئية الأوروبية ضربة قاسية بعد انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقيات دولية محورية، على رأسها اتفاق باريس للمناخ. هذا القرار، الذي اتخذته الإدارة الأمريكية، وضع دول الاتحاد الأوروبي في موقف معقّد، إذ وجدت نفسها مضطرة لتحمّل عبء قيادة الجهود العالمية لمواجهة التغير المناخي، في وقت تتصاعد فيه التحديات البيئية والضغوط الاقتصادية داخليًا.
ويرى مراقبون أن هذا الانسحاب لم يكن مجرد خطوة رمزية، بل رسالة سياسية واضحة تقلل من أولوية القضايا البيئية في الأجندة الأمريكية، ما أثار مخاوف أوروبية من تراجع الالتزام الدولي الجماعي تجاه أخطر تحديات العصر.
أما في المجال الأمني، فقد شكّل إصرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب على رفع الإنفاق الدفاعي الأوروبي نقطة تحول كبرى. إذ وُضعت الميزانيات الوطنية لدول الاتحاد الأوروبي تحت ضغط غير مسبوق، مع مطالبة واشنطن لحلفائها بتحمّل نصيب أكبر من كلفة الدفاع المشترك ضمن حلف شمال الأطلسي (الناتو).

هذا الضغط دفع جيوش دول أوروبية عدة، مثل ألمانيا وفرنسا وبولندا، إلى إعادة النظر في عقائدها العسكرية، والعودة للاستثمار في التسلح التقليدي والاستعداد لاحتمالات صراعات كبرى، بعد سنوات من التركيز على المهام الخارجية ومكافحة الإرهاب.
ويرى محللون أن هذه السياسات أنهت ما وُصف بـ«العطلة الاستراتيجية» لأوروبا، حيث لم يعد بإمكان القارة الاعتماد الكامل على المظلة الأمنية الأمريكية، خصوصًا فيما يتعلق بدعم أوكرانيا في مواجهة روسيا.
سياسيًا، تحولت الساحة الأوروبية إلى مسرح استقطاب حاد.
فمن جهة، برزت قوى سياسية تقدّم نفسها باعتبارها حامية لأوروبا في مواجهة «الترامبية»، ومن جهة أخرى، صعدت تيارات شعبوية ترى في شعار «أمريكا أولًا» نموذجًا يمكن استنساخه أوروبيًا.
هذا الانقسام لم يقتصر على الخلاف مع الولايات المتحدة، بل امتد داخل المجتمعات الأوروبية نفسها، ليشمل قضايا حساسة مثل الهجرة، والتعددية الثقافية، والنوع الاجتماعي، وحدود الصوابية السياسية.
ويشير أتيلا ديمكو، المحلل الأمني الهنغاري، إلى أن سياسات الرئيس الأمريكي كشفت زيف فكرة «القيم المشتركة» بين أوروبا والولايات المتحدة، وأظهرت انقسامًا عميقًا في الرؤى والمبادئ، ليس فقط بين ضفتي الأطلسي، بل داخل أوروبا ذاتها.
من جانبها، ترى كاي بيلي هاتشيسون، السفيرة الأمريكية السابقة لدى حلف الناتو، أن ترامب، وإن كان بصورة غير مقصودة، دفع أوروبا إلى تحمّل مسؤولية أكبر عن أمنها. وتعتقد أن هذا التحول قد يشكل فرصة لبناء قدرات عسكرية أوروبية أقوى وأكثر تكاملًا، إذا ما أُحسن استثماره.
لكن هاتشيسون شددت على أن تقاسم الأعباء الدفاعية لا يمكن أن ينجح إلا إذا أدى إلى قدرات عسكرية متوافقة وقابلة للعمل المشترك داخل إطار الناتو، محذّرة من أن أي مسار منفصل قد يضعف الحلف بدلًا من تقويته.
في السياق ذاته، يعتبر مانفريد إلسيغ، أستاذ العلاقات الدولية، أن أخطر ما أحدثته سياسات الرئيس الأمريكي هو زعزعة الثقة التي شكّلت حجر الأساس في الشراكة الأمريكية-الأوروبية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. ويرى أن هذا التراجع في الثقة دفع دول الاتحاد الأوروبي إلى التفكير جديًا في بناء هيكل أمني أكثر استقلالًا، تحسبًا لتغير المزاج السياسي في واشنطن.
من زاوية أخرى، ترى أليونا هليفكو، الخبيرة الأوكرانية السابقة، أن الاضطرابات التي أطلقتها السياسات الأمريكية أجبرت أوروبا على النضوج سياسيًا واستراتيجيًا. فالقارة، بحسب وصفها، تنتقل تدريجيًا من نموذج ثقيل وبطيء في اتخاذ القرار إلى نموذج أكثر مرونة وسرعة في الاستجابة للأزمات.
ويبرز هذا التحول في صعود أدوار دول مثل ألمانيا وفرنسا ودول البلطيق، إلى جانب بولندا التي باتت تُعد قوة محورية مرشحة للعب دور قيادي في أوروبا خلال السنوات المقبلة.
أما على مستوى الهوية السياسية، فتؤكد ألكسندرا سويكا أن تأثير ترامب كان مزدوجًا؛ إذ عزّز خطاب المتشككين في الاتحاد الأوروبي، لكنه في الوقت نفسه دفع قطاعات واسعة من الأوروبيين إلى الالتفاف حول مشروع التكامل الأوروبي، وتعزيز الثقة بالمؤسسات المشتركة.
بدوره، يرى سوندر كاتوالا أن الأثر الأعمق لترامب يتمثل في تقديمه تصورًا قاتمًا لمستقبل محتمل تصبح فيه الولايات المتحدة نفسها مصدر تهديد للنظام الديمقراطي الغربي، وهو ما أجبر الأوروبيين على إعادة التفكير في مسلّماتهم السياسية والاقتصادية.
في المحصلة، تتفق معظم القراءات على أن أوروبا تقف اليوم عند مفترق طرق تاريخي. فإما أن تنجح في تحويل الضغوط الأمريكية إلى فرصة لبناء استقلالية استراتيجية حقيقية، أو أن تظل رهينة لتقلبات السياسة في واشنطن، مع ما يحمله ذلك من مخاطر على استقرارها ومستقبلها.