تشهد منطقة الحدود بين تايلاند وكمبوديا واحدة من أكثر النزاعات الإقليمية تعقيداً في جنوب شرقي آسيا، وهو نزاع يتكرر إشعاله رغم الاتفاقيات الثنائية والوساطات الدولية.

وتعود جذور التوتر إلى خلافات تاريخية على ترسيم الحدود وملكية بعض المناطق الغنية بالموارد، أبرزها المنطقة المحيطة بمعبد برياه فيهير، التي تسببت في اشتباكات متكررة خلال العقدين الماضيين.
وبرغم توقيع هدنة في أكتوبر برعاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، فإن الهدوء لم يستمر طويلاً.
فقد تسببت الاشتباكات التي وقعت في يوليو، وأسفرت عن مقتل العشرات من الجنود والمدنيين، في ترك ندوب عميقة لدى الطرفين، بينما ظل الخط الحدودي قابلاً للاشتعال في أي لحظة.
وجاءت الأحداث الأخيرة لتؤكد هشاشة الوضع، بعد أن شنت تايلاند غارات جوية على مواقع حدودية تزعم أنها مناطق إطلاق نار كمبودية.
وفي ظل مطالب دولية بتهدئة التوتر، يخشى المراقبون أن تتسبب هذه الأزمة الجديدة في زعزعة الاستقرار الإقليمي، خاصة مع التدفقات السكانية الكبيرة التي بدأت تتجه نحو مناطق آمنة بعيداً عن خطوط المواجهة.
شنت القوات الجوية التايلاندية، صباح الإثنين، سلسلة غارات مركزة على مناطق حدودية متنازع عليها مع كمبوديا.
وأعلنت وزارة الدفاع التايلاندية أن العملية جاءت "رداً على إطلاق نار كمبودي باتجاه الأراضي التايلاندية في عدة مواقع"، وفق وصفها.
وأسفرت الاشتباكات عن مقتل جندي تايلاندي وإصابة أربعة آخرين، بحسب المتحدث العسكري التايلاندي الميجور جنرال وينثاي سوفاري.
وأوضح أن الجيش اضطر لاستخدام الطائرات الحربية "لقمع مصادر النيران الكمبودية"، مؤكداً أن الضربات استهدفت مواقع عسكرية فقط.
في المقابل، اتهمت وزارة الدفاع الكمبودية تايلاند ببدء الهجوم، مؤكدة أن قواتها لم ترد خلال الضربات الأولى.
وقالت المتحدثة الرسمية مالي سوشيتا إن الجيش التايلاندي "شنّ هجوماً مباشراً دون مبرر"، مطالبة بوقف العمليات فوراً.
أعلنت وزارة الدفاع التايلاندية أن أكثر من 35 ألف شخص اضطروا لترك منازلهم في القرى الحدودية، ونُقلوا إلى مراكز إيواء مؤقتة داخل مناطق آمنة.
وتوقعت الوزارة أن يكون العدد أكبر، إذ فرّ آلاف آخرون للإقامة مع أقاربهم بعيداً عن مواقع الاشتباكات.
وفي الجانب الكمبودي، أكد وزير الإعلام نيث فيكترا أنه تم إجلاء سكان عدة قرى حدودية خشية امتداد القصف الجوي.
وشوهدت طوابير طويلة من المدنيين وهم يعبرون الطرق الريفية باتجاه مناطق داخلية أكثر أمناً، في مشهد يعيد إلى الأذهان أزمة النزوح التي وقعت عام 2011 خلال آخر موجة كبيرة من الاشتباكات.
وتحذر منظمات إنسانية إقليمية من أن استمرار القتال سيؤدي إلى أزمة إغاثية حادة، في ظل محدودية الموارد وعدم قدرة السلطات المحلية على استيعاب الأعداد المتزايدة من النازحين.
قال رئيس الوزراء التايلاندي أنوتين شارنفيراكول، في خطاب متلفز، إن الإجراءات العسكرية "ضرورية للدفاع عن البلاد وحماية السلامة العامة"، مضيفاً أن بلاده "لم تبادر بالقتال ولن تتسامح مع أي انتهاك لسيادتها". ودعا المواطنين إلى الالتزام بالتعليمات الحكومية والبقاء في مراكز الإيواء حتى إشعار آخر.
وفي المقابل، شدد المسؤولون الكمبوديون على أن جيشهم لم يبدأ الهجوم، ودعوا إلى تدخل دولي لضمان وقف التصعيد.
وطالبت كمبوديا تايلاند "باحترام الاتفاقيات الثنائية والامتناع عن الأنشطة العدائية التي تهدد السلام والاستقرار".

أعرب رئيس وزراء ماليزيا أنور إبراهيم عن قلقه من تفاقم الوضع، داعياً البلدين إلى ضبط النفس. وقال في بيان نُشر عبر حساباته الرسمية إن "منطقة جنوب شرقي آسيا لا يمكنها تحمل تحول خلافات تاريخية إلى سلسلة من المواجهات العسكرية".
وأبدت ماليزيا استعدادها للمساهمة في أي جهود وساطة لوقف التصعيد.
ويرى محللون سياسيون أن اندلاع المواجهات مجدداً يعكس فشل اتفاق الهدنة الأخير، مشيرين إلى أن غياب آليات رقابة دولية فعالة يزيد من احتمالات تجدد العنف في أي وقت. كما يُحذرون من أن استمرار التوتر قد يعرقل جهود التنمية الإقليمية، ويؤثر في العلاقات داخل رابطة دول جنوب شرقي آسيا (آسيان).

برغم الدعوات الدولية المتزايدة لوقف القتال، فإن فرص التهدئة تبدو مرهونة بمدى استعداد الطرفين للعودة إلى طاولة الحوار. ومع غياب حلول جذرية لنقاط الخلاف التاريخية، خصوصاً المتعلقة بترسيم الحدود وملكية المواقع الأثرية، يستبعد مراقبون أن يؤدي التصعيد الحالي إلى حل سريع.
وتشير تقديرات خبراء إلى أن أي نزاع جديد بين البلدين لن يقتصر على الجانب العسكري فقط، بل قد تكون له تبعات اقتصادية واجتماعية واسعة، خاصة مع اعتماد القرى الحدودية على التجارة البينية والأنشطة الزراعية المشتركة.
وبينما تواصل تايلاند وكمبوديا تبادل الاتهامات، يبقى المدنيون في المناطق الحدودية هم الأكثر تضرراً، حيث يعيشون حالة من القلق والترقب، فيما تتواصل الاشتباكات بصورة متقطعة رغم الدعوات المعلنة للتهدئة.