وسط دوامة من الضغوط والتحديات، يقف وزير الحرب الأمريكي، «بيت هيجسيث»، على حافة اختبار تاريخي لمستقبله ومسيرته، حيث تتصاعد الأزمات الداخلية والخارجية لتضع وزارته ومكانته الشخصية تحت المجهر، في مشهد سياسي ومؤسسي يعكس هشاشة القرار وسط عاصفة من التوتر والصراعات المتشابكة.
بعد أشهر قليلة من انتقاله من أضواء التلفزيون إلى أروقة «البنتاجون»، يجد الوزير الأمريكي «هيجسيث» نفسه مُحاصرًا باتهامات جسيمة تتعلق بارتكاب جرائم حرب في منطقة البحر الكاريبي، إضافة إلى تقرير لاذع من المفتش العام يفضح سوء إدارته لمعلومات استخباراتية عسكرية حساسة، ما يضع مسيرته على المحك.
حتى وسط تصاعد الضغوط، ومطالب المشرّعين من كلا الحزبين بالتنحي، يرفض مذيع فوكس نيوز السابق التنازل عن منصبه، مُستندًا إلى الدعم الثابت من الرئيس «ترامب»، مما يزيد من تعقيد الأزمة السياسية المُحيطة به.
تُشير صحيفة «ذا جارديان» البريطانية إلى أن الأزمتين كشفتا عن «نمط من التهور الخطير على رأس البنتاجون». فقد أعاد المشرعون الديمقراطيون إشعال الدعوات لإقالته بعد الكشف عن قتل عمدي لناجين متشبثين بحطام قارب في سبتمبر الماضي في هجوم «مزدوج» بالبحر الكاريبي، بينما خلص تحقيق نُشر يوم الخميس الماضي، إلى أنه انتهك سياسات البنتاجون بمشاركة تفاصيل حساسة عبر تطبيق «سيجنال» قبل ساعات من غارات جوية في اليمن.
يأتي الجدل الأخير في الوقت الذي تُركّز فيه حملة الكاريبي على الضربات غير القانونية التي شنّتها إدارة ترامب ضد مهربي المخدرات المشتبه بهم، التي أسفرت عن مقتل (87) شخصًا على الأقل في (22) هجومًا منذ سبتمبر الماضي.
وبرر «ترامب» العملية بأنها ضرورية لمكافحة تهريب «الفنتانيل»، مُدعيًا أن كل سفينة مُدمّرة تُنقذ حياة (25 ألف) أمريكي، على الرغم من أن المسؤولين السابقين وخبراء سياسات المخدرات وصفوا هذا الرقم بأنه «سخيف»، مُشيرين إلى أن «الفنتانيل» يدخل الولايات المتحدة بشكل رئيسي برًا من المكسيك، وليس عبر قوارب الكاريبي من فنزويلا.

تلفت الصحيفة البريطانية إلى أن فترة هيجسيث في منصبه «اتسمت بخلل وظيفي حاد داخل البنتاجون نفسه»، حيث دأب مساعدوه في وقت سابق من هذا العام على تسريب معلومات ضد بعضهم البعض والإبلاغ عن زملائهم، فيما وصفه العديد من المسؤولين بأجواء «فوضوية ومضطربة».
أيضًا، استغل وزير الحرب تحقيقًا في هذه التسريبات لعزل ثلاثة من كبار مستشاريه في الربيع، مُدعيًا أنه تم التعرف عليهم من خلال ما يُعادل تنصتًا غير قانوني من وكالة الأمن القومي دون إذن قضائي.
ووسط هذه الفوضى، خضعت قانونية الضربات الأمريكية في الكاريبي لتدقيق مُكثف بعد أن علم الرأي العام أن رجلين نجوا من الهجوم الأول في 2 سبتمبر شوهدا وسط الحطام عندما صدر الأمر بشن ضربة لاحقة.
وبينما نفى «هيجسيث» في البداية صحة التقارير ووصفها بأنها «مُلفقة»، إلا أنه أكد لاحقًا الحقائق الأساسية خلال اجتماع لمجلس الوزراء، قائلًا إنه تصرف في «ضباب الحرب» لكنه لم يبق لمراقبة بقية المُهمة.
أول أمس الخميس، دعت السيناتور الديمقراطية «باتي موراي»، نائبة رئيس لجنة المخصصات بمجلس الشيوخ، إلى إقالة هيجسيث عقب إحاطة إعلامية مشتركة بين الحزبين حول الحادثة. وقالت: «بين الإشراف على هذه الحملة في منطقة البحر الكاريبي، والمخاطرة بأرواح أفراد الجيش الأمريكي بمشاركة خطط الحرب على منصة سيجنال، وغير ذلك الكثير، يتضح جليًا أن الوزير هيجسيث غير مؤهل لهذا المنصب، وقد حان وقت رحيله».
كما أصدر ائتلاف الديمقراطيين الجُدد، أكبر تكتل ديمقراطي في مجلس النواب ويضم (116) عضوًا، بيانًا خاصًا بهم وصفوا فيه هيجسيث بأنه «غير كفء ومتهور ويُشكّل تهديدًا لحياة الرجال والنساء الذين يخدمون في القوات المسلحة».
واتهم رئيس الائتلاف، «براد شنايدر»، ورئيس مجموعة عمل الأمن القومي، «جيل سيسنيروس»، وزير الحرب بـ «الكذب وتجاهل الحقائق والتضحية بمرؤوسيه، رافضًا تحمل المسؤولية».
في إطار تفاقم أسبوع «هيجسيث» السيئ، خلص تقرير المفتش العام لوزارة الدفاع، إلى أن هيجسيث انتهك سياسات البنتاجون من خلال استخدام «سيجنال» لمشاركة تفاصيل دقيقة حول الغارات الجوية في اليمن، بما في ذلك كمية وأوقات ضربات الطائرات الأمريكية المأهولة فوق الأراضي المعادية، قبل نحو ساعتين إلى أربع ساعات من تنفيذ المهام في 15 مارس.
وأفاد التقرير بأن تصرفات هيجسيث «شكّلت خطرًا على الأمن التشغيلي، كان من المُمكن أن يُسفر عن إخفاق أهداف المُهمة الأمريكية وإلحاق ضرر مُحتمل بالطيارين الأمريكيين».
ونُقلت المعلومات، التي صُنّفت سريةً وغير مسموح بمشاركتها مع أي شخص أجنبي، عبر جهاز هيجسيث الشخصي -غير المؤمن- في محادثات جماعية مع مسؤولين آخرين في إدارة ترامب.
كما وجد التحقيق أنه لم يحتفظ بجميع الرسائل ذات الصلة، مُنتهكًا بذلك متطلبات حفظ السجلات الفيدرالية.
في حين أن الغالبية العظمى من الدعوات لاستقالة هيجسيث جاءت من الديمقراطيين، أعرب بعض الجمهوريين عن مخاوفهم. حيث أشار السيناتور «راند بول» إلى أن هيجسيث كذب بشأن هجوم القارب في سبتمبر، قائلاً إن وزير الدفاع إما «كان يكذب علينا أو أنه غير كفء ولم يكن يعلم بوقوعه».
كما صرّح النائب الجمهوري «دون بيكون»، لشبكة «CNN» بأنه «رأى ما يكفي» ليخلص إلى أن «هيجسيث ليس القائد المناسب للبنتاجون».
البنتاجون بدوره بدا مُرتبكًا في رسائله الإعلامية، وفشل في تقديم رواية مُتماسكة لسلسلة القيادة التي أشرفت على الضربات. ففي حين أوحى البيت الأبيض في بادئ الأمر بأن «الأدميرال فرانك برادلي»، قائد العمليات الخاصة في القيادة الجنوبية، أمر بتنفيذ الضربة الثانية دفاعًا عن النفس، قال هيجسيث لاحقًا إن برادلي اتخذ القرار بموافقته المُسبقة، لكنه كان يمتلك السُلطة الكاملة للتصرف بشكل مُستقل. أما الرئيس دونالد ترامب فزعم أنه لا يعرف شيئًا عن التفاصيل العملياتية، بل وذهب إلى القول إنه لم يكن ليُؤيد تنفيذ الضربة الثانية.
ووسط هذا التضارب في الروايات، تتصاعد الضغوط السياسية والإعلامية على «هيجسيث»، في وقت لا تزال فيه التساؤلات القانونية والأخلاقية حول حملة الكاريبي وطريقة إدارة البنتاجون للمعلومات الحساسة «دون إجابات حاسمة».
من جانبه، بدا «هيجسيث»، مُتحدّيا خلال اجتماع للحكومة يوم الثلاثاء الماضي، مُؤكّدًا أن الجيش «بدأ فقط» في استهداف قوارب المخدرات، رغم إقراره بوجود «صعوبة في العثور على أهداف حاليًا». وبعد يومين فقط، أعلنت وزارة الحرب عن ضربة جديدة أسفرت عن مقتل أربعة أشخاص.
مع ذلك، ورغم الجدلين المتناقضين اللذين خلقا ما وصفه المشرعون بأنه «وضعٌ لا يُطاق للوزير»، كما نقلت «ذا جارديان»، واصل ترامب دعم هيجسيث علنًا، مُعربًا عن «ثقته التامة» في فريق الأمن القومي التابع له.
وبما أن «مجلس الشيوخ» تحت سيطرة «الجمهوريين»، ومع استمرار دعم الرئيس ترامب له، تبدو احتمالات مواجهة «هيجسيث» لعواقب وخيمة «ضئيلة جدًا»، ما يمنحه هامشًا واسعًا للاستمرار في منصبه رغم الضغوط والاتهامات.
في نهاية المشهد، يبقى مستقبل وزير الحرب الأمريكي، «بيت هيجسيث»، مُعلّقًا بين ضغوط الداخل وتعقيدات الخارج، في لحظة سياسية حساسة تختبر قدرته على البقاء والمناورة. ومع استمرار التحقيقات وتصاعد الجدل، تظلّ مسيرته مفتوحة على كل السيناريوهات، بين نجاة مؤقتة أو عاصفة قد تعصف بمستقبله السياسي والعسكري خلال المرحلة المُقبلة.