أعاد الإعلان الإسرائيلي عن الاستعداد لفتح قنوات تعاون اقتصادي مع لبنان، بالتوازي مع تكليف الرئيس اللبناني جوزاف عون للسفير السابق في واشنطن سيمون كرم برئاسة الوفد اللبناني في لجنة الميكانيزم، الجدل حول مستقبل العلاقة بين الطرفين في ظل واحدة من أكثر المراحل حساسية إقليمياً وداخلياً.
ورغم أن الطرح الإسرائيلي يبدو في ظاهره اقتصادياً، إلا أن قراءته السياسية تكشف عن رسائل مركّبة تتجاوز الاقتصاد، وتلامس التوازنات الداخلية في لبنان والاعتبارات الاستراتيجية في الشرق الأوسط.
الحسابات الإسرائيلية ورسائل التوقيت
وفق مصادر سياسية لبنانية، فإن المبادرة الإسرائيلية ليست خطوة اقتصادية محضة، بل تأتي محمّلة برسائل سياسية تستغل حالة السيولة الإقليمية. وترى هذه المصادر أن تل أبيب تحاول الظهور في موقع الباحث عن الاستقرار، في مقابل تحميل لبنان، ولا سيما حزب الله، مسؤولية استمرار التوتر الحدودي.
وتقول مصادر مطلعة إن إسرائيل، رغم استمرار عملياتها العسكرية في العمق اللبناني، تحرص في الوقت نفسه على إرسال إشارات «مرونة محسوبة»، تمهّد لإمكان الدخول في مرحلة تفاوض مستقبلية حين تتقاطع ظروف إقليمية ودولية أكثر نضجاً.
ويربط مراقبون هذه الخطوة بالمأزق الداخلي الذي يواجهه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ومساعيه لتقديم إنجاز سياسي يوظّفه داخلياً.
الجغرافيا السياسية للبنان وجاذبية الطاقة
يلفت مصدر رسمي لبناني إلى أن موقع لبنان الجيوسياسي يجعله محور اهتمام إقليمي، رغم محدودية قدراته الاقتصادية. وتحتفظ إسرائيل باهتمام متزايد بملف الطاقة شرق المتوسط، خاصة بعد اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع لبنان عام 2022.
ويرجّح المصدر أن إسرائيل تسعى إلى تصدير صورة مفادها أن شرق المتوسط منطقة يمكن تحويلها إلى فضاء تعاون اقتصادي، سواء في الطاقة أو البنية التحتية. كما ينبه إلى أن تل أبيب تولي أهمية كبيرة لإدارة الموارد المائية المشتركة، وهو ملف لطالما شكّل محوراً حساساً بالنظر إلى الأطماع التاريخية في مياه لبنان.
ويرى المصدر أن الطرح الإسرائيلي حول التعاون لا يمكن أخذه على محمل الجد إلّا في إطار وقف إطلاق نار دائم وترتيبات أمنية واضحة وضمانات دولية، وهي شروط غير متوافرة حالياً، ما يجعل الطرح أقرب إلى محاولة سياسية منها إلى مشروع قابل للتنفيذ.
قراءة الخبراء: من الاقتصاد إلى الرسائل السياسية
يرى الباحث في الشؤون الجيوسياسية، الدكتور زياد الصائغ، أن المبادرة الإسرائيلية موجّهة للخارج قبل الداخل، وترتبط بالسعي الأميركي لتطبيق عملي لمخرجات مؤتمرات دولية هدفت إلى تهدئة ساحات الصراع في المنطقة.
ويشير الصائغ إلى أن إسرائيل تميل إلى تصدير مفهوم «السلام من بوابة الاقتصاد»، لكن هذا الطرح، برأيه، يبقى أقرب إلى الخطاب الدعائي، لا سيما في ظل استمرار احتلال إسرائيل لأراضٍ لبنانية، وعدم اكتمال أي مسار سياسي حقيقي بين الجانبين.
ويضيف أن الاستعجال الإسرائيلي في طرح التعاون يأتي كجزء من عملية «جس نبض» لمعرفة مدى استعداد لبنان للانخراط في مفاوضات أوسع. لكنه يؤكد أن الظروف الحالية لا تسمح بمسار تفاوضي متقدم، في ظل التوترات الأمنية وعدم وضوح الرؤية اللبنانية.
ملف التفاوض اللبناني: هيكل ضبابي وسقف واضح
يعتبر الصائغ أن الملف اللبناني التفاوضي لا يزال ضبابياً حتى الآن، رغم أن سقفه السياسي واضح ومتمثل في اتفاقية الهدنة لعام 1949 برعاية الأمم المتحدة. ويشير إلى أن تكليف السفير سيمون كرم برئاسة الوفد في لجنة الميكانيزم يُعد خطوة مهمة لجهة بناء ملف تفاوضي يجمع بين السياسة والدبلوماسية والقانون والقرار 1701.
ويؤكد أن كرم يمتلك خبرة سياسية ودبلوماسية واسعة، وقدرة على صياغة موقف سيادي واضح، وهو ما سيشكل عنصراً أساسياً في بلورة رؤية لبنانية موحّدة حال دخول البلاد في مسار تفاوضي رسمي.
الالتزامات اللبنانية والسقف العربي
يشدد الصائغ على أن لبنان جزء لا يتجزأ من الإجماع العربي، وهو ملتزم بالمبادرة العربية للسلام، التي وضعت إطاراً شاملاً للعلاقة مع إسرائيل. ووفق الصائغ، فإن أي مبادرة أو طرح خارج هذا السقف يبقى «مجرد تمنيات سياسية»، لا يمكن أن تتحول إلى مسار عملي من دون تغيير جوهري في البيئة الإقليمية.
ويرى أن التزام لبنان بالمبادرة العربية يحدّ بشكل واضح من إمكان التقدم بأي تعاون اقتصادي أو سياسي، إلا ضمن إطار شامل يتضمن حل القضايا العالقة ووقفاً تاماً للاعتداءات.
حدود الاقتصاد في العلاقة بين الطرفين
يثير التركيز الإسرائيلي على التعاون الاقتصادي أسئلة حول واقعية مثل هذا الطرح، خاصة أن لبنان يمر بأزمة اقتصادية عميقة منذ عام 2019، ويعاني من محدودية دوره الاقتصادي إقليمياً.
ولا يستبعد الصائغ أن تسعى إسرائيل إلى تطوير مشاريع مشتركة في مجالات النفط والسياحة والصناعة، مستندة إلى أفكار مطروحة حول إنشاء منطقة اقتصادية جنوب لبنان ضمن مبادرة أميركية أوسع. لكن هذه الخطط، وفق الصائغ، «لا يمكن أن تنطلق قبل حوار سياسي دبلوماسي»، وهو أمر مستبعد حالياً في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي للنقاط الخمس، وعدم حلّ قضية مزارع شبعا، وغياب الاستقرار الأمني في الجنوب.
معوّقات أساسية أمام أي تعاون محتمل
ترى مصادر سياسية أن هناك مجموعة عوائق تمنع أي تقدّم في التعاون الاقتصادي، أبرزها:
1. استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية داخل الأراضي اللبنانية
2. غياب وقف إطلاق نار دائم
3. عدم وجود قنوات اتصال رسمية مستقرة
4. الانقسام الداخلي اللبناني حول أي مسار تفاوضي
5. حساسية موقع حزب الله وأدواره الإقليمية
6. استمرار الاحتلال الإسرائيلي لأراضٍ لبنانية
كل هذه العوامل تجعل الطرح الإسرائيلي أقرب إلى مناورة سياسية منه إلى مشروع اقتصادي فعلي.
يبدو أن الحديث عن تعاون اقتصادي بين لبنان وإسرائيل لا يزال بعيداً عن أي تطبيق عملي، في ظل التعقيدات الأمنية والسياسية. ومع ذلك، يكشف التوقيت وطريقة الطرح عن محاولات إسرائيلية لإعادة تشكيل المشهد الإقليمي، ومحاولة تصوير نفسها على أنها الطرف الأكثر رغبة في الاستقرار، مقابل تحميل لبنان مسؤولية استمرار التوتر.
وفي المقابل، يتحرك لبنان بحذر، ملتزماً بسقف الهدنة لعام 1949 والمبادرة العربية للسلام، منتظراً ظروفاً إقليمية ودولية أكثر ملاءمة قبل الانخراط في أي مسار تفاوضي يتجاوز حدود الضرورة الأمنية.