في شتاء عنيزة البارد، عند منتجع «الملفى» تحديداً، حيث يختلط صمت الصحراء الخفيف برائحة القهوة التي تتصاعد ببطء مع بخار الصباح الباكر، يصبح التفكير في شؤون العالم أكثر صفاءً. هناك، في تلك اللحظات وسط سكون لا يقطعه سوى همس الريح وهي تلامس النخيل وأشجار الرمث وصوت العصافير، يُدرك المرء أن السياسة الدولية ليست صخب تصريحات، بل حركة عميقة تشبه تبدل الفصول، بطيئة لكنها حاسمة. ومن هذا الهدوء، يمكن فهم زيارة الأمير محمد بن سلمان إلى واشنطن على نحو أوضح. فالعلاقة بين الرياض وواشنطن لم تعد تُقرأ بسطحية التصريحات والمواقف اليومية، بل ببوصلة استراتيجية تتجاوز الظاهر، وتكشف عن إعادة تشكيل التوازنات في الشرق الأوسط. لحظة تشبه رشفة الفنجان الأول في صباح بارد: بسيط في شكله، وعميق في معناه، ويفتح على يوم مختلف. وكما قال الأمير محمد بن سلمان: «نحن لا ننتظر المستقبل، نحن نصنعه»، وهي جملة تلخص بعمق الروح التي حملتها هذه الزيارة.
ومن يتأمل طبيعة العلاقات السعودية - الأميركية يدرك أنها لم تُبنَ على اللحظة أو ردة فعل، وإنما على مسار طويل تجاوز تسعين عاماً من الشراكة المتراكمة. فمنذ اللقاء التاريخي بين الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت على ظهر البارجة الأميركية كوينسي في فبراير (شباط) 1945، تشكّلت بين البلدين علاقة بُنيت على الاحترام والثقة واستمرارية المصالح وتطورها عبر العقود. وقد أعجبني كلام لحفيد الرئيس الأميركي الأسبق، ديلانو روزفلت، بأن ما يميز هذه العلاقة هو «الاستعداد الدائم لمواصلة الحوار»، مشبهاً الشراكة بين الرياض وواشنطن بالعلاقة العائلية التي يجري فيها حل الخلافات كلما ظهرت، ومؤكداً أن البلدين «حققا السلام وحافظا عليه عبر التعاون والتجارة»، وأن اجتماعات اليوم ليست إلا تعزيزاً لهذا الالتزام المتبادل، واستمراراً لهذه العلاقة الراسخة. فقد نجح الحليفان في تجاوز كثير من الأزمات والتحديات، من مواجهة الاتحاد السوفياتي في حقبة الحرب الباردة، إلى الحفاظ على استقرار أسواق النفط، ثم خوض الحرب على الإرهاب، وصولاً إلى التعامل مع التحولات العميقة التي شهدها الشرق الأوسط عبر العقود الماضية، لتثبت أنها واحدة من أكثر العلاقات ثباتاً في النظام الدولي. ومع كل منعطف جديد، كانت الرياض وواشنطن تعيدان صياغة هذا التحالف بما يتناسب مع واقع كل مرحلة، من غير أن تفقدا جوهر الثقة، وعمق الترابط الاستراتيجي بينهما.
ومع التغير الجديد الذي تشهده المنطقة والعالم اليوم، جاءت زيارة الأمير محمد بن سلمان لتعيد ترتيب وصياغة هذا التحالف بما يتلاءم ويتناسب مع معطيات المرحلة الراهنة والمستقبلية. وكذلك لتأكيد أن الشراكة بين الولايات المتحدة والسعودية قادرة على التكيف والتجدد كلما دخلت المنطقة مرحلة جديدة من التحديات والفرص. فالتحديات التي تفرضها المرحلة المقبلة لم تعد تداعياتها محصورة في أطرافها المباشرين أو في جوارها الإقليمي القريب، بل امتدت لتصيب دولاً أخرى تقع في أقاليم بعيدة أثرت عليها بشكل مباشر وغير مباشر. فتداعيات جائحة «كورونا»، والأزمة الروسية الأوكرانية ضغطت على الطاقة وسلاسل الإمداد العالمية، فيما زادت حدة المواجهة بين الولايات المتحدة والصين من تفجر في الأسعار، يضاف إلى ذلك سباق التقنيات العسكرية والرقمية، وانتهاء بتعقيد الملفات الإقليمية في السودان واليمن ولبنان وسوريا وفلسطين. كل ذلك يجعل من التنسيق السعودي - الأميركي أكثر أهمية وإلحاحاً للانتقال من إدارة أزمات متفرقة إلى تطوير إطار عمل شامل للردع والاستقرار، ويمكن من خلال ذلك إدارتها بكفاءة، بإطار يتعامل مع مصادر التهديد بوصفها منظومة مترابطة لا كأنها ملفات منفصلة أو متفرقة بل حلقات ضمن سلسلة واحدة. ومن ثم تصبح الحاجة إلى مقاربة تجمع الأدوات السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية في صيغة واحدة: تنسيق دبلوماسي يمنع انفجار الأزمات، وقدرات ردع عسكرية ترفع تكلفة التصعيد، وتعاون استخباراتي استباقي يرصد التهديدات قبل وقوعها، وشراكة اقتصادية وتقنية تبني بدائل مستدامة، وتقلل تعرض المنطقة لاضطرابات سلاسل الإمداد والمصادر غير المستقرة. وهذا يجعل التحالف السعودي - الأميركي يتحول من إدارة تداعيات وأضرار الأزمات إلى بناء بيئة تمنع أو على الأقل تصعب تشكلها من الأساس.
وفي المقابل، تحمل المرحلة نفسها فرصاً استثنائية للطرفين، فرصة لتحويل موقع السعودية الجغرافي ومواردها واستثماراتها المتنامية في الداخل والخارج إلى منصة لنمو اقتصادي وتقني عابر للحدود. وقد قال الأمير محمد بن سلمان في تصريح لافت خلال زيارته للبيت الأبيض: «سيتم الإعلان عن استثمارات مع أميركا بقيمة تتراوح بين 600 مليار وتريليون دولار». وأضاف الأمير محمد بن سلمان: «التعاون مع أميركا يستحدث فرصاً حقيقية في الذكاء الاصطناعي»، مؤكداً أن الاتفاقيات الجديدة تشمل أيضاً التقنية والمواد الخام والمعادن المتقدمة. كما أكد ولي العهد هذا التوجه بقوله: «هذه الأموال ليست لإرضاء أميركا، بل لأننا نرى فرصاً حقيقية»، في دلالة واضحة على أن الزيادة الضخمة في الاستثمارات ليست قراراً سياسياً عابراً، بل هي جزء من شراكة اقتصادية وتقنية تقوم على الجدوى والفرص الحقيقية، وعلى بناء مسارات نمو متبادلة تتجاوز حدود المجاملات التقليدية. ومن هنا جاءت الشراكة في الذكاء الاصطناعي لتؤكد انتقال التعاون بين البلدين من إطار تبادل المصالح التقليدية إلى بناء اقتصاد معرفي مشترك يعتمد على الابتكار والتقنيات المتقدمة، ويمنح التحالف بُعداً استراتيجياً يتجاوز حدود الطاقة والاستثمار إلى صناعة مستقبل القطاعات الحيوية في المنطقة. وقد أكد الأمير فيصل بن فرحان والوزير ماركو روبيو أن توقيع وثيقة «الشراكة الاستراتيجية للذكاء الاصطناعي يمثل خطوة تاريخية تُؤسس لمرحلة جديدة في العلاقة الاستراتيجية بين البلدين، وتعكس التزاماً راسخاً بتعزيز الابتكار والتقدم التقني، سعياً إلى شراكة أمن اقتصادي شاملة وطويلة الأمد، تعمق الالتزامات الأمنية المشتركة، وتعزز الرخاء الاقتصادي من خلال توظيف التقنيات المتقدمة والمستقبلية لما فيه المنفعة المتبادلة لبلدينا العظيمين».
وفي الجانب الأميركي، تمثل هذه المتغيرات فرصة لإعادة بناء تحالف يعتمد على شريك خليجي صاعد يملك رؤية طويلة المدى، وقدرة استثمارية عالية، وحضوراً سياسياً مؤثراً في ملفات المنطقة. ومع تعمق الشراكة في الطاقة المتقدمة، والذكاء الاصطناعي، والصناعات الدفاعية، وسلاسل الإمداد، يتحول هذا التحالف من تحالف يركّز على تقليل المخاطر إلى تحالف يصنع الفرص، ويعيد تقديم الشرق الأوسط بوصفه ساحة استقرار ونمو، لا ساحة أزمات مزمنة.
ومع ذلك، تبدو الزيارة أبعد من كونها لقاءً رسمياً في لحظة سياسية حساسة، فهي إعادة ضبط هادئة لإيقاع تحالف رافق كل منعطف في تاريخ المنطقة. ففي عالم تتغير فيه خرائط النفوذ وتتقاطع مصالح الاقتصاد والتقنية والأمن، تدخل السعودية مرحلة أكثر حضوراً، فيما تعيد الولايات المتحدة ترتيب أولوياتها في نظام دولي يتجه نحو تعدد مراكز القوة. وفي قلب هذا المشهد، تبرز فرصة نادرة للرياض وواشنطن لإعادة تعريف تحالفهما ليصبح أداة للاستقرار وصناعة الفرص، ويضع التحالف على وتيرة جديدة أكثر قدرة على مواكبة عالم يتغير بسرعة غير مسبوقة.
نقلًا عن صحيفة الشرق الأوسط