دراسات وأبحاث

الصدع السياسي بفرنسا يهدد الاستقرار الوطني.. هل تواجه باريس هزيمة قبل الطلقة الأولى؟

السبت 22 نوفمبر 2025 - 07:02 م
جهاد جميل
الأمصار

تشهد الساحة السياسية الفرنسية حالياً حالة من الانقسام العميق، تُعتبر من أكثر الانقسامات خطورة منذ سنوات، حيث يكاد الخلاف السياسي أن يعطل تشكيل الحكومة الجديدة. 

وبينما تتهيأ فرنسا في الطليعة الأوروبية لمواجهة أي تصعيد محتمل في القارة، يبدو أن البلاد تواجه هزيمة قبل الطلقة الأولى، إذ أثارت تصريحات رئيس أركان الجيوش الفرنسي، الجنرال فابيان ماندون، غضباً واسعاً في الأوساط السياسية والمعارضة.

الجنرال ماندون صرح خلال مؤتمر عُقد في فرنسا بأن على الدولة "قبول فقدان أبنائها"، في حال اندلاع حرب في أوروبا، وهو ما اعتبره الكثيرون تصريحاً صادماً ومثيراً للجدل، خاصةً في ظل حساسيات الوضع الأمني والسياسي الحالي.

 هذا التصريح ألقى بظلاله على المشهد السياسي الفرنسي، حيث اتهمت بعض الأحزاب المعارضة الرئيس إيمانويل ماكرون بالتحضير لتصعيد محتمل مع روسيا، فيما اعتبر آخرون التصريحات محاولة لتهيئة الرأي العام نفسياً لقبول خسائر محتملة في حالة اندلاع نزاع عسكري أوسع.

 

تصريحات ماندون وتأثيرها على الساحة السياسية

تصريحات رئيس الأركان جاءت في سياق دعوته إلى استعادة القوة المعنوية للجيش والمجتمع الفرنسي، استعداداً لدفع ثمن التضحية في حال اندلاع مواجهة عسكرية. 

وذكرت وسائل الإعلام الفرنسية، ومنها "فرانس 24"، أن السلطات تعمل منذ أشهر على تهيئة الرأي العام لاحتمال مواجهة عسكرية محتملة، خصوصاً في ظل استمرار الحرب الروسية في أوكرانيا وتداعياتها على الأمن الأوروبي.

لكن هذه الجهود تواجه صعوبة في الوصول إلى الجمهور الفرنسي، الذي يرى أن البلاد بعيدة نسبياً عن ساحة المواجهة، ويعول على مظلة الردع النووي لحمايته. وفي المقابل، رأى معارضون أن الخطاب الرسمي يمهد نفسياً لتصعيد عسكري محتمل، متهمين الحكومة باللعب بالنار، وإعداد الرأي العام لتحمل خسائر بشرية واقتصادية قد تكون غير مبررة.

المعارضة الفرنسية ترفض خطاب الحرب

ردود الفعل على تصريحات الجنرال ماندون كانت سريعة وحادة. كتلة "فرنسا الأبية" البرلمانية (اليسار الراديكالي) أكدت في بيان رسمي أن "مثل هذه التصريحات غير مقبولة ولا ينبغي أن تصدر عن رئيس أركان الجيوش"، فيما أشار فابيان روسيل، زعيم الحزب الشيوعي، إلى أن فرنسا لا تحتاج إلى خطاب دعاة الحرب، متسائلاً عن جدوى التضحية مجدداً في ظل وجود أكثر من 51 ألف نصب تذكاري لقتلى الحروب السابقة في البلاد.

من جانب آخر، لويس أليو من التجمع الوطني (أقصى اليمين) صرح قائلاً: "يجب أن يكون المواطن مستعداً للدفاع عن وطنه، لكن الحرب يجب أن تكون عادلة أو ذات ضرورة حقيقية لحماية الأمة"، مضيفاً أن غالبية الفرنسيين غير مستعدين للذهاب والموت من أجل أوكرانيا، وهو ما يعكس الانقسام الكبير داخل المجتمع الفرنسي حول مسألة الانخراط العسكري الخارجي.

 

الحكومة والدفاع عن التصريحات

في المقابل، دافعت وزيرة القوات المسلحة الفرنسية، كاترين فوتران، عن الجنرال ماندون، مؤكدة أنه يملك كامل الشرعية للتحدث عن التهديدات العسكرية، وأن تصريحاته أُخرجت من سياقها لأهداف سياسية، بحسب صحيفة "لوموند". 

وتعمل السلطات الفرنسية على نشر دليل توعوي بعنوان "في مواجهة المخاطر"، لتقديم نصائح للمواطنين حول التعامل مع مجموعة واسعة من التهديدات، من الفيضانات والهجمات الإلكترونية وصولاً إلى الحرب المحتملة.

 

فرنسا والحرب في أوكرانيا: التوترات المستمرة

منذ العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، اتبعت فرنسا خطاباً متكرراً يوضح حالة عدم الاستقرار التي تسبب فيها النزاع، بالتزامن مع المواقف المتقلبة للحليف الأمريكي. 

وتوضح "المجلة الوطنية الاستراتيجية لعام 2025" أن فرنسا يجب أن تستعد لاحتمال انخراط عسكري كبير في محيط أوروبا خلال الفترة 2027-2030، مع توقع ارتفاع في الهجمات الهجينة على أراضيها.

ورغم أن الاستطلاعات تشير إلى أن 64% من الفرنسيين يخشون امتداد النزاع العسكري إلى بلادهم، فإن العديد منهم لا يزال يشعر بأنه بعيد عن المخاطر المباشرة، وهو ما يمثل تحدياً أمام السلطات في محاولتها تهيئة الرأي العام.

 

الرأي العام الفرنسي والردع النووي

الباحثة بينيدكت شيرون أكدت أن الذاكرة التاريخية للحروب العالمية ما زالت تؤثر على نظرة الفرنسيين للحرب، حيث يرتبط تصورهم للنزاع بالحاجة إلى حماية الأراضي الوطنية وليس بالصراعات الخارجية. 

وأضافت أن تصريحات الجنرال ماندون تعكس "انعدام الثقة تجاه السلطات السياسية"، وأن الفرنسيين يجدون صعوبة في قبول فكرة مشاركة القوات ودفع الثمن البشري والاقتصادي لأسباب لا تتعلق بحماية أراضيهم.

أما فيما يخص الردع النووي، فقد أشارت هيلواز فاييه من المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية إلى أن هذا الردع لا يمكنه حماية فرنسا من كافة التهديدات، مثل الهجمات الهجينة أو الطائرات المسيّرة أو أعمال التخريب، مؤكدة أن المرونة والقوات التقليدية لا غنى عنها لضمان الأمن القومي.

 

الخلاصة: فرنسا بين الاستعداد والتحفظ

الواقع السياسي الفرنسي الحالي يعكس تحديات كبيرة أمام القيادة الفرنسية، إذ تواجه البلاد صدمة داخلية ناجمة عن انقسامات سياسية حادة، مع ضرورة التحضير لمواجهة محتملة على الساحة الأوروبية.

 بينما يدعو بعض المسؤولين إلى الاستعداد لكل الاحتمالات، يرى الجمهور الفرنسي، لا سيما في الأوساط المدنية، أن المخاطر المباشرة ما زالت بعيدة نسبياً، ما يجعل عملية تحفيز الرأي العام على التضحية العسكرية تحدياً كبيراً.

في الوقت نفسه، تبرز الحاجة إلى تحقيق توازن بين الخطاب الرسمي، الذي يسعى لتحفيز الجاهزية الوطنية، وبين الاستجابة لمخاوف المواطنين ومقاومة خطاب التحريض على الحرب، خصوصاً في ظل تصاعد التوترات الأوروبية المرتبطة بالأزمة الأوكرانية وتحديات الردع النووي والهجمات الهجينة.

فرنسا اليوم واقعة بين المطرقة والسندان: ضرورة الاستعداد العسكري والأمن القومي من جهة، والرغبة الشعبية في تجنب الدخول في نزاعات دموية من جهة أخرى، وهو ما يجعل الصدع السياسي الحالي ليس مجرد أزمة داخلية، بل تحدياً استراتيجياً يهدد الاستقرار الوطني قبل حتى انطلاق أي مواجهة عسكرية محتملة.