ليس مبالغةً أن نقولَ إنَّ الرئيس السوري أحمدَ الشرع تحول بعد عملية ردع العدوان إلى رمز جماهيري. رمز في قلوب غالبية السوريين لمستقبل خالٍ من الخوف؛ وهو أدرك ذلك فنسج لنفسه بنفسه صورة مغايرة للماضي: صورة القائد الوطني، والمؤمن بتاريخ بلاده، ووحدة أراضيها، وشعبها، والمتعايش مع جيرانه، والراغب في سلام يمسح عن وجه الشام رائحة البارود وأنات المعذبين. لذلك يجد، من يراقب تصريحاته، عبارة تتكرر في كل لقاءاته أن الماضي ليس بوصلة الحاضر: احكموا عليَّ الآن وليس بما كنت عليه أمس. هذه العبارة تكرس الصورة التي رسمها، وبالتالي تلقفها الإعلام الغربي بشغف، وربط العالم مستقبل سوريا بنجاح الشرع، واستقرار المنطقة بقدرته على إدارة السلطة؛ هكذا أصبح مشروع حماية الدولة السورية بقيادة الشرع مشروعاً دولياً وإقليمياً. فالرئيس ترمب المؤمن بأهمية «صناعة الصورة» قال عنه: كلنا لنا ماض معيب، إنَّما ماضيه أكبر، لكنَّه رجل قوي، وأنا أحبه، ويمكن أن نعقد معه صفقات؛ طبعاً الصفقة هي استقرار سوريا، وإذا ما تحققت تغير وجه الشرق الأوسط. وهذا ما قاله وزير خارجيته روبيو إن الخيار الآن بين سوريا مستقرة وسوريا مزعزعة. هكذا أصبح الاستقرار مطلباً دولياً وإقليمياً مربوطاً بزعامة الشرع.
زيارة الشرع لأميركا كرَّست هذه الصورة، إنَّما بجهد سعودي وتركي وقطري غير مسبوق، لإيمان تلك الدول بأن ثمة فرصة تاريخية لا بد من انتهازها وإلا فالتبعات ستكون كارثية على المنطقة؛ لذلك استقبله ولي العهد الأمير محمد بن سلمان مباشرة، بخطوة استباقية، وكذلك ساعدته تركيا بسخاء؛ لأنها تراهن على وأد الانفصال الكردي، بينما قطر رأت نجاحه تتويجاً لحساباتها الدقيقة. وأدرك الشرع هذا التلاقي في القراءات الإقليمية والدولية برعاية سعودية وتركية وقطرية فسَوّق نفسه باعتباره قائداً مستقبلياً يضمن استقرار سوريا، وينضم إلى جهود محاربة التطرف، ويكسب بالمقابل دعماً اقتصادياً، ودبلوماسياً وعسكرياً. بهذا المسار يراهن الشرع على رسم صورة جديدة لسوريا تناسب صورته؛ الدولة الوطنية، المفارقة للقومية والتطرف. واختياره الدولة الوطنية لقناعته بأن القومية تأسر الدولة الوطنية، عدا عن عقمها نظرياً. فالدولة القومية (نظرياً) مؤسسة على العرق، والدين، والتاريخ، والعادات والتقاليد؛ ولكي تتحقق في بيئة عربية تعددية دينياً وعرقياً استخدم حاملوها العنف لأبعد حدود، فانعدمت الحرية وحل الخوف، وتردت البلاد. أما سوريا الوطنية التي يريدها الشرع تتلاقى ببعض الأوجه مع القومية إنما تختلف بهويتها التعددية الجامعة ومنها حرية الاختلاف العرقي والديني، واللغوي، ومشاركة الجميع في بناء وطن وليس عبر قيادة قومية (الحزب القائد) تقود الجماهير. هذه الوطنية نافية بطبيعتها للنظرية الإسلاموية الباحثة عن خلافة جامعة لا تعترف بحدود، وترى العنف أداتها الوحيدة. ونظراً لخلفيته الدينية حرص الشرع دوماً على القول: الجهاد الذي لا يعرف حدوداً انتهى. بمعنى آخر؛ وداعاً لهذه المرحلة ومرحباً بالدولة الوطنية.
ولتحقيق الدولة الوطنية ثمة عقبات أمام الشرع، منها العلاقة مع إسرائيل، ومع الغرب وروسيا، ثم بناء المؤسسات الوطنية. في العلاقة مع إسرائيل ستكون، كما نشاهد، البراغماتية بوصلته، ومعها تمحوره مع المملكة وتركيا وقطر لشد أزره في التفاوض حول العودة إلى اتفاق «فصل القوات عام 1974»؛ أو على الأقل التوصل إلى اتفاق جديد لا يحمل ضرراً لمشروعه الوطني، ويعزز استقرار سوريا. ويبدو أنَّ الغرب التقط تلك الإشارات؛ فلم يمانع زيارته لروسيا لنسج علاقة جديدة مع الرئيس بوتين تضمن مصالح روسيا مقابل دعمها للشرع في مشروعه الوطني. أما بناء المؤسسات، فهي ركيزة مهمة لاستقرار سوريا، شريطة ربطها بالدستور، وليس بشخص الشرع «باعتباره قائداً ملهماً»؛ فالجمهوريات يحكمها دستور يضع القرار بيد الشعب من خلال مؤسسات تضمن نزاهة القرار، وصون الحريات. فالشرع بوسعه تحقيق الدولة الوطنية، وبوسعه أيضاً تفريغها من روحها إذا أراد؛ لأنَّه يملك حالياً كل الصلاحيات المطلقة.
البعض يتهمون الشرع ببراغماتية شديدة، وهو اعترض بشدة على هذا الوصف بقوله: «البراغماتية في بلادنا تعني تجاوز القيم والمبادئ». لكنه عملياً يحقق غايات هذه البراغماتية وهي حماية الجمهورية ووحدة الشعب. حلم الشعب السوري الآن، وحكومات عربية، أن يتمكن الرئيس أحمد الشرع من بناء دولة وطنية، ناظمها الحرية، موحدة، ومستقلة، ومستقرة.
الأوراق كلها بيد الشرع، والتاريخ هو الشاهد الأكبر.
نقلًا عن صحيفة الشرق الأوسط