آراء وأقلام

د. أنمار الدروبي يكتب: من أفلاطون إلى شيشرون وهيجل.. المواطنة والتجانس محور الفلسفة السياسية لمفهوم الدولة المثالية

الإثنين 17 نوفمبر 2025 - 06:25 م
د أنمار الدروبي
د أنمار الدروبي

ظلت الدولة المثالية حلما في عقول الفلاسفة، نتيجة لرفض واقعهم السياسي والاجتماعي، وتصورهم لعالم أفضل، حيث كان مفهوم الدولة المثالية يتسم بالشد والجذب، ونظرا لرفض الواقع السياسي المتغير والمتصارع ظهر حلم الدولة المثالية كحالة من التناغم والانسجام بين طبقات المجتمع التي تتسم بالهدوء والاستقرار والتوازن.

 عليه يكون مفهوم الدولة المثالية أقرب إلى التصور الأخلاقي، لاسيما كان التوافق بين طبقات المجتمع هو محور نظرية الدولة عند اليونان. 

وعندما جاء أفلاطون وظهرت الحاجة إلى الفلسفة السياسية والمفهوم السياسي لتصور الدولة المثالية بوصفها بداية حملة علمية لمثال الخير، وكذلك جاء تصور الدولة المثالية لكي يعرف السياسي ما الخير في ذاته، وما يلزم لخلق دولة صالحة تعد نموذجا لباقي الدول.


من هذ المنطلق، أرسى أفلاطون في جمهوريته مبدأ أن قيادة الدولة علم أو ينبغي أن تكون علما، رافضا بذلك أنظمة الحكم التي أثبتت فشلها سياسيا واجتماعيا واقتصاديا. 

ثم جاء شيشرون عند الرومان في القرن الأول قبل الميلاد وأحيي الحلم الأفلاطوني بتصور الدولة المثالية، حيث كانت روما في وجهة نظر شيشرون تجسيدا للنموذج المثالي للدولة، بيد أنه كان على غرار أفلاطون في محاور الجمهورية والقوانين.

 ولم تكن قوانين شيشرون تعديلا لحلم الجمهورية كما كانت عند أفلاطون، لكنها تتبع محاور الجمهورية في تحديدها للقوانين التي يجب إتباعها في الدولة المثالية والتي رسمها في القوانين.

 وان كانت التشابهات بينهما عديدة فالاختلافات أكثر، فالاثنان وصفا المخاوف للعلاقة بين المواطن والدولة. في السياق ذاته، أن دولة أفلاطون المثالية يجب ألا يزيد عدد سكانها عن أربعة آلاف وخمسين شخصا بحسب رأيه.


أما أرسطو يرى أن عدد السكان للدولة يجب ألا يكون كثيرا حتى تكون دولة مثالية في الحكم ولكي يكون الحكم ناجحا.

 وعلى الرغم من أن عدد السكان وحده لا يعطينا أفكار واضحة عن مثالية الدولة أو قوة الدولة، بل يجب معرفة أيضا بعض العوامل الأخرى مثل متوسط أعمار السكان كالرجال لأنهم الشريحة التي تعتمد عليهم أي دولة في الإنتاج وحمل السلاح للدفاع عن الدولة، ويدخل ضمن ذلك النساء أيضا. 

لكن بعض فقهاء السياسة يرون أن أي زيادة في عدد السكان تعني زيادة في القوة البشرية بالمستقبل، كما هو الحال في دول أمريكا وأوروبا الغربية التي فرضت نفوذها وسيطرتها وتمكنت من نشر ثقافتها الغربية ليس فقط من خلال عدد السكان ولكن أيضا بالتقدم العلمي والصناعي والتطور التكنولوجي. 


إذن يجب أن يكون هناك نسبة بين عدد سكان أي دولة ومساحتها وقدرتها الإنتاجية والعلمية لأن عندما يكون عدد السكان كبير وقدرة إنتاجية تقل عن حاجاتهم أو عدد سكان قليل وقدرة إنتاجية قليلة كلاهما يشكل عائق أمام تقدم الدول

لقد أثبت لنا التاريخ بأن الدول ذات أعداد السكان الكبيرة يكون لديها قدرة كبيرة في الدفاع عن نفسها من الاعتداءات الخارجية، لأن جيشها سيكون كبير العدد مقارنة بالدول التي تكون قليلة في عدد سكانها، من ثم أن العدد الكبير من السكان يوفر خبرات وكفاءات في الدولة، وهذا ما تعاني منه الدول قليلة العدد وهي ندرة توفر العمال والفنيين.

 أما البعض الآخر من الباحثين فقد رأوا بأن التزايد السكاني الغير متوازن مع الموارد الطبيعية للدولة فإنه يؤدي إلى أضعاف الدولة.
الجدير بالذكر، ينبغي التعرض إلى موضوع المواطنة وتجانس المواطنين في البلد الواحد وأهميته في قوة الدولة ومثاليتها، حيث تلعب المواطنة دورا محوريا في بناء المواطن الصالح وإعداده للتفاعل بإيجابية مع المجتمع والدولة.


وتعرف المواطنة " من المفاهيم الحضارية التي افرزها الفكر الحديث من خلال النتاج الفكري للإنسان والذي هو عماد وأساس هذا المفهوم، وأيضا من خلال تراكم المنجزات الحضارية في الجانب العلمي التطبيقي الذي حول المفاهيم المجردة إلى نظرية عمل تكللت بإنجازات ساهمت في رقع قيمة الإنسان باعتباره معيار الحضارة". (مقدمة أبن خلدون، ص20).


ويُعد التجانس من العوامل المهمة لمثالية دولة ما، والتجانس كثيرا ما يشمل الأوجه الفكرية والاقتصادية والعقائدية. لكن في نفس الوقت هناك تجانس بين أفراد الشعب الواحد على الرغم من اختلاف عقائدهم، وخير دليل على ذلك (الولايات المتحدة الأمريكية)، فبالرغم من أنها تكونت من شعوب قدمت إليها من مختلف أنحاء العالم، ومنهم أوروبا وشعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية، هذه الشعوب متكونة من أجناس مختلفة ومتناقضة لا تجمعها حتى اللغة، لكنها استطاعت من خلق مجتمع متطور لدولة مثالية، بعد أن تركوا ولاءاتهم الفكرية واعتنقوا ولاء الوطن الذي يحملون جنسيته ويعيشون على أرضه ويأكلون من خيراته، حيث كانت مصلحة الدولة لديهم فوق كل مصلحة. 


أما المواطنة فهي أساس الرابط الاجتماعي، ففي المجتمع الديمقراطي الحديث لم يعد الرباط بين الأفراد دينيا أو سلاليا وإنما سياسيا. 

فعيش أفراد مما لا يعني بالضرورة اعتناقهم ذات الدين أو اشتراكهم في التبعية لذات الملك الحاكم أو خضوعهم لذات السلطة وإنما كونهم مواطنين تابعين لذات النظام السياسي، وللمواطن المشارك في ذات السيادة الحق قدر الاحترام الذي يحظى به الآخرون، كما أن له الحق في مراعاة كرامته، وترتكز العلاقات بين الجميع على قدر متساو من الكرامة.

 وقد ظهر مبدأ الشرعية تدريجيا في جميع أشكال الحياة الاجتماعية مما جعل مجتمع المواطنين في مؤسساته السياسية والاجتماعية وفي تعاملاته اليومية منفردا لا يشبه أي مجتمع. (دومنيك شناير، وباشولييه كريستيان، ما المواطنة، ص11)


وتختلف مسألة الدولة المثالية وعدد سكانها وفق الفلسفات السياسية والاعتبارات الاقتصادية، فقد أيدت الفلسفات الشرقية والديانات السماوية زيادة السكان ونظرت إليها نظرة ايجابية. لقد ذكر أبن خلدون في مقدمته الفكرية مؤيدا للنمو السكاني ضمانا للأمن السياسي والعسكري للدولة، وكقوة اقتصادية تعمل على تحسين مستويات المعيشة.

 كما جاء في كتابات الاقتصاديين الكلاسيك من أمثال آدم سميث، الذي دعى إلى الاهتمام بدور القوة العاملة في تحقيق النمو الاقتصادي. بالرغم من أن (توماس مالتيس) زعيم المدرسة التشاؤمية كان ضد هذا الرأي، حيث كان من دعاة الرأي القائل أن مثالية الدولة تكمن في قلة عدد سكانها، لاسيما أن مالتس كان قد حذر من الزيادة السكانية، معللا ذلك بأن كل زيادة سكانية إذا لم تُضبط وتكون وفق قواعد صحيحة ومحسوبة، فإنها ستؤدي إلى عدم توافقها مع زيادة الإمكانيات والاحتياجات الأخرى.
إن كثير من البلدان اليوم تنظر إلى عدد السكان كمصدر للقوة الاقتصادية والفكرية والحضارية، حيث هناك دول وشعوب تعاني من القلة في العدد والإمكانات والطاقات، لكنها ما تزال تمارس كل العملية السياسية وغير السياسية. وهناك دول أخرى وضعت خطط وبرامج لمضاعفة عدد سكانها، وهي دول متطورة اقتصاديا وصناعيا مثل (ماليزيا) وكذلك سنغافورة، التي تتبنى سياسات تهدف إلى تشجيع النسل.
في الاتجاه الآخر نجد أن زيادة عدد السكان يؤثر سلبا على نوع آخر من الدول مثل (الهند والصين) حيث تقوم هذه الدول بإعادة النظر في سياساتها السكانية. (عبلة عبد الحميد، خصائص الدول الأقل نموا).
مما تقدم تكون المواطنة من العناصر المهمة في تكوين الدولة والإبقاء عليها، وبدونها يكون قيام الدولة مشوها في مضمونها وجوهرها.

 فالمواطنة أصبحت مبدأ الدولة الحديثة ومرتكزها، بل العمود الفقري في النشأة والاستمرارية وفي التكوين والبقاء. فمفهوم المواطنة تبلور جنبا إلى جنب مع مفهوم الدولة الدستورية، وهذا ما ركز عليه روسو في أديباته الديمقراطية وحاول هيجل التركيز عليه في تقديمه الفعلي للملكية الدستورية في كتابه (فلسفة اليمين).

 فينبغي على المواطن ضمن مفهوم المواطنة الحقيقي أن يعي حقوقه كاملة والمنطلقة من مبدأ أن الحكومة وجدت من أجل خدمة الشعب، وان الشعب لم يخلق لخدمة الحكومة، لاسيما أن مواطنوا الدولة ورعاياها هم أسباب وجود الدولة.