يُخيَّل لمن يتأمل المشهد الإعلامي العالمي اليوم، أن هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) تقف في عين عاصفة غير مسبوقة، وأن هزاتها الداخلية الأخيرة تكاد تُطيح بما تراكم لها من رصيد امتد قرابة قرن. فالأزمة التي انفجرت إثر ثبوت التلاعب في فيلم وثائقي، وأوحت بأن الرئيس الأميركي دونالد ترمب دعا إلى العنف عشية اقتحام مبنى «الكابيتول»، لم تكن أزمة تقنية ولا مهنية عابرة؛ بل أزمة عصفت بثقة الجمهور، وأربكت إحدى أعرق المؤسسات الإعلامية في العالم.
ولذلك، فقد غدت استقالة مديرها العام، ومديرة الأخبار فيها، عنواناً لعِظَم الزلزال، وعمق ما تركه من ندوب.
بدت المؤسسة -للحظة- وكأنها تتعثر بين مطرقة الهجوم السياسي العنيف وتبعاته القانونية المُحتملة، وسندان النقد المهني الداخلي والخارجي، بينما ارتفعت الأصوات المُشككة في قدرتها على الحفاظ على سمعتها التي طالما اعتزت بها.
إلا أن قراءة أكثر تمعّناً تكشف أن ما جرى -على شدته- لا يشكل قطيعة مع تاريخ الهيئة، بقدر ما يعيد التذكير بمنهجها المتوارث في مواجهة الأخطاء. فمنذ نشأتها، لم تدَّعِ هيئة الإذاعة البريطانية العصمة، ولم تقدِّم نفسها يوماً بوصفها مؤسسة بلا ثغرات، رغم حرصها على موضعة نفسها في «موقع الإلهام».
إن «بي بي سي»، في جوهرها، مؤسسة مهنية قائمة على جهد البشر، تنجز وتخطئ، تصيب وتتعثر، شأنها شأن أي هيئة صحافية كبرى، تعمل تحت ضغط الجمهور والسياسة والرأي العام. ولكن ما يميزها عبر الزمن هو قدرتها على الإقرار بالخطأ عادة، وعلى بناء آليات محاسبة ذاتية، وعلى تحويل السقوط المؤقت إلى وقفة مراجعة تضمن لها البقاء.
لقد شهدت الهيئة أزمات سابقة لا تقل خطراً عما تعيشه اليوم. ولطالما كان التاريخ شاهداً على عواصف هزَّت صورتها أمام جمهورها، ودفعَت مديرين ومسؤولين كباراً إلى المغادرة «حفاظاً على أخلاقيات المهنة وسمعة المؤسسة». ورغم ذلك، لم تُغلق «بي بي سي» أبوابها، ولم تُرفَع راية النهاية فوق مبانيها. ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن نظامها المؤسسي لا يقوم على إخفاء العيوب؛ بل القبول بكشفها، ولا على المكابرة؛ بل على الاعتذار.
لقد سارعت الهيئة -بعد انكشاف التلاعب في الفيلم موضع الجدل- إلى الاعتراف العلني بما اقترفه فريقها، وإلى الاعتذار عنه بلا مواربة، ثم إلى اتخاذ خطوات عملية فورية، كان أبرزها استقالة أعلى المسؤولين التنفيذيين ذوي الصلة. وهذا السلوك -وإن بدا للبعض مؤشراً على انهيار داخلي- فإنه في عمقه برهان على أن المؤسسة لم تفقد بوصلتها الأخلاقية، وأنها ما زالت ترى في المساءلة ضرورة لا يمكن التهرُّب منها.
إن تلك الأزمة تكشف أيضاً عن خطورة تحول الإعلام -حتى في كبريات مؤسساته- إلى طرف في الصراعات السياسية. فترمب الذي يخوض منذ سنوات معركة مفتوحة مع مؤسسات إعلامية كبرى، وجد في هذا الخطأ فرصة لتجديد الاتهام بوجود تحيُّز منهجي ضده، بينما وجد أنصاره في الواقعة دليلاً إضافياً على فساد الإعلام «التقليدي» وتلاعبه. وهكذا تحوَّل خطأ تحريري إلى مادة سجالية تتجاوز حدود المؤسسة نفسها، وتدخل في أتون الصراع السياسي الداخلي الأميركي.
غير أن من يتتبع تاريخ الهيئة، يرى أن هذه الاتهامات ليست جديدة عليها؛ فطوال عقود كانت تتعرَّض لاتهامات متضاربة، من اليمين واليسار، من الحُكم والمعارضة، حتى باتت هذه التناقضات نفسها دليلاً على اتساع حضورها وعمق تأثيرها.
ومع كل ذلك، يبقى العامل الحاسم في مستقبل الهيئة؛ ليس في حجم أخطائها؛ بل في قدرتها على تأمين مصادر تمويلها. فهذه المؤسسة -مهما اتسع نفوذها وتعددت منصاتها- تعتمد في بقائها على أنموذج مالي محدد. وإن أي اضطراب كبير في هذا الأنموذج يمكن أن يهدد استقلالها وجودة مخرجاتها.
ولعل السؤال الأخطر ليس ما إذا كانت «بي بي سي» قادرة على تجاوز أزمتها الحالية؛ بل ما إذا كانت ستستطيع المحافظة على التمويل الذي يضمن لها القيام بدورها التاريخي، دون خضوع لضغوط سياسية أو تجارية. فالخبرة تشير إلى أنها كلما ضُمنت لها الموارد اللازمة، استطاعت أن تعيد بناء ثقة الجمهور بها، وأن تستأنف عملها بوصفها واحدة من أبرز المؤسسات الإعلامية المؤثرة في العالم.
يمكن النظر إلى أزمة «بي بي سي» الراهنة من زاوية تهافت قدرة الإعلام العمومي على الوفاء بالمعايير، وتراجع الإعلام «التقليدي» وانحيازه، ولكن من زاوية أخرى ينبغي التذكير؛ ليس بتاريخها العتيد فقط، ولكن أيضاً بتوفُّر آليات المحاسبة والمساءلة الفعالة في الإعلام العمومي «التقليدي»، في مقابل ما نراه من فوضى واستباحة للمعايير في أنماط أخرى من الإعلام.
نقلًا عن صحيفة الشرق الأوسط