في قلب غابات الأمازون، حيث يتنفس الكوكب أكسجينه الأخير، انطلقت أعمال الدورة الثلاثين لمؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي (COP30) في مدينة بيلم البرازيلية، وسط أجواء يختلط فيها الأمل بالخوف، والطموحات بالضغوط السياسية والاقتصادية. يشارك في المؤتمر أكثر من 190 دولة تمثل مزيجاً من القوى الكبرى والاقتصادات النامية والدول المهددة بالغرق، في لحظة يعتبرها الخبراء “الفرصة الأخيرة” لوضع العالم على المسار الصحيح قبل أن تتجاوز الأرض نقطة اللاعودة المناخية.
لم يكن اختيار الأمازون لاستضافة المؤتمر مجرد صدفة جغرافية، بل رسالة رمزية عميقة. فالغابة التي تمتص ما يقارب ملياري طن من الكربون سنويًا، تحولت إلى بؤرة صراع بين التنمية والحماية، بعدما فقدت نحو 17% من مساحتها خلال نصف قرن، بفعل القطع الجائر والحرائق ومشروعات التعدين والنفط. هنا بالضبط، في “رئة الكوكب”، يلتقي قادة العالم لمناقشة كيفية إنقاذ الأرض من الاحتباس الحراري... ومن أنفسهم في الوقت ذاته.
في كلمتها الافتتاحية، شددت الرئيسة البرازيلية مارينا سيلفا على أن “غابة الأمازون هي جهاز المناعة للأرض، وإذا مرضت، سيمرض الكوكب كله”، داعية الدول الغنية إلى الوفاء بالتزاماتها التمويلية والبيئية. إلا أن حكومتها تواجه انتقادات بسبب استمرار عمليات التنقيب عن النفط في شمال البلاد، ما جعل البعض يرى أن البرازيل تحاول التوفيق بين صورتها البيئية وطموحاتها الاقتصادية.
يناقش المؤتمر حزمة من القضايا الساخنة، أبرزها خفض الانبعاثات بنسبة 43% بحلول عام 2030 مقارنة بمستويات 2019، وهو شرط أساسي للحفاظ على هدف 1.5 درجة مئوية. لكن التوقعات تشير إلى أن العالم يسير نحو ارتفاع قد يصل إلى 3.1 درجات مئوية بنهاية القرن. كما تتصدر قضية التمويل المناخي جدول الأعمال، إذ تطالب الدول النامية بتخصيص 1.3 تريليون دولار سنويًا لدعم مشروعات التكيف والتخفيف، في حين لا يتجاوز التمويل الفعلي ثلث هذا الرقم.
واحتدم الجدل بين الاتحاد الأوروبي والهند حول “آلية الكربون الحدودي” التي تفرض رسومًا على المنتجات عالية الانبعاثات، إذ اعتبرتها نيودلهي “أداة استعمار بيئي جديدة”، بينما دافع الأوروبيون عنها باعتبارها “ضرورة لإنقاذ المناخ وضمان المنافسة العادلة”. أما الولايات المتحدة، فتعرضت لانتقادات شديدة بسبب غياب كبار مسؤوليها عن المؤتمر، حيث اعتبر حاكم كاليفورنيا غافن نيوسوم أن “غياب واشنطن عن الطاولة يُفقدها حق قيادة العالم في قضايا المناخ”.
في المقابل، تسعى الدول العربية إلى إثبات حضورها كقوة فاعلة في العمل المناخي، لا كمجرد متلقٍ للقرارات. فقد أعلنت مصر مبادرة إفريقية لتحلية المياه بالطاقة الشمسية بالشراكة مع البنك الدولي، وقدمت السعودية تقريرًا موسعًا عن التقدم في تطبيق “الاقتصاد الدائري للكربون”، متعهدة بمضاعفة استثماراتها في احتجاز الكربون. كما ركّز المغرب على التحول الزراعي المستدام، معلنًا خطة لاستصلاح مليون هكتار جديد بحلول عام 2030. أما قطر والإمارات، فقد ساهمتا بمبلغ إجمالي بلغ 350 مليون دولار لدعم صندوق “الخسائر والأضرار”، في خطوة تعكس رغبة عربية متنامية في لعب دور أكبر بتمويل العدالة المناخية.
ورغم الزخم السياسي، ما تزال الخلافات بين الشمال والجنوب تشكّل عقبة أمام التوصل إلى اتفاق شامل. فالدول النامية ترى أن “الملوِّث يجب أن يدفع”، بينما ترد الدول الصناعية بأنها لا تستطيع تقديم “شيك على بياض” في ظل غياب خطط شفافة لاستخدام الأموال. وفي الكواليس، تشير تقارير صحفية إلى ضغوط تمارسها شركات النفط والغاز الكبرى لعرقلة أي التزام دولي بخفض إنتاج الوقود الأحفوري، ما يعكس الصراع المستتر بين حماية الكوكب وحماية الأرباح.
الإحصاءات الصادرة عن المؤسسات الدولية تزيد من الشعور بالخطر: فقد بلغت مستويات ثاني أكسيد الكربون 421 جزءًا في المليون، وهي الأعلى منذ ملايين السنين، فيما ارتفعت حرارة الأرض بمقدار 1.2 درجة منذ الثورة الصناعية. يعيش أكثر من 3.3 مليارات إنسان تحت تهديد مباشر من الفيضانات والجفاف وحرائق الغابات، بينما تجاوزت الخسائر الاقتصادية الناتجة عن الكوارث المناخية 300 مليار دولار في عام واحد. ويحذر البنك الدولي من أن كل عام من التأخير في العمل المناخي سيجعل كلفة الإصلاح المستقبلية مضاعفة خمس مرات.
كل ذلك يؤكد أن قمة الأمازون ليست مجرد حدث بيئي، بل معركة من أجل بقاء الحضارة الإنسانية. فالمناخ لم يعد قضية بيئية فحسب، بل أصبح مسألة أمن وغذاء وماء واستقرار سياسي. وتأخر التحرك يعني كوارث إنسانية غير مسبوقة. ومع اقتراب منتصف المؤتمر، ينتظر العالم ما إذا كان القادة سينجحون في تجاوز المصالح الوطنية الضيقة من أجل هدف مشترك، أم أن “قمة التنفيذ” ستتحول مجددًا إلى “قمة الأعذار”.
إن قمة الأمازون تذكّرنا بأن الأرض ليست تركة نستهلكها، بل وديعة نستعيرها من أبنائنا. إنها صرخة تحذير أخيرة من قلب الغابة إلى ضمير العالم: التحرك الآن... أو الندم لاحقًا.