آراء وأقلام

عبدالله بن بجاد العتيبي يكتب: ترمب وزهران... ما «أمداك» وما «أمداني»

الأحد 09 نوفمبر 2025 - 07:45 ص
عبدالله بن بجاد العتيبي
عبدالله بن بجاد العتيبي

الصلة بين العربية الفصحى واللهجات العربية المعاصرة تختلف اقتراباً وبعداً بحسب الموقع الجغرافي والبيئة المعيشة ودرجة الاحتكاك بالثقافات الأخرى، وبالأعاجم، وصلة شعوب الجزيرة العربية باللغة العربية صلة وثيقة لا في الفصاحة فحسب، بل وفي الشعر والأدب والصور الشعرية والأمثال.

يستخدم عرب الجزيرة العربية المعاصرين وبخاصة في السعودية، عبارة ما «أمداني»، بمعنى أنني لم أدرك الوقت أو لم أدرك الفهم، وهي تستخدم كثيراً في هذا السياق، ومن هنا فإن اسم عمدة نيويورك الجديد زهران ممداني له إحياءٌ بمعنى سياسيٍ يمكن التأمل فيه.

ولكأن ترمب يقول له ما «أمداك» تفوز بالانتخابات حتى بدأت المواجهة معي، وما «أمداني» أستوعب هذه المواجهة الجديدة التي برزت فيها في وضع استثنائي وغريبٍ وجديدٍ على تاريخ أميركا لأتصرف معك.

الترمبية الجمهورية اليمينية ليست هي المطلوب عربياً بشكلٍ واضحٍ، ولكنك لا تفصل الدول العظمى على مقاسك، بل تحسن التعامل معها بحسب قوتك وسياساتك، ولكنها بكل الأحوال خيرٌ من الأوبامية الديمقراطية اليسارية الليبرالية، التي أصبحت مع «ممداني» اشتراكيةً وهي البلاء المقيم، والتاريخ الحديث خير شاهدٍ.

جرى في العالم العربي ابتهاجٌ بفوز ممداني عبر قنواتٍ فضائية ووسائل تواصلٍ اجتماعي باعتباره انتصاراً لـ«غزة» على التواطؤ بين «ترمب» و«نتنياهو» وأنه يبشر بعودة اليسار الليبرالي داخل الحزب الديمقراطي بصورةٍ أكثر تطرفاً من «أوباما» و«بايدن»، ومن هنا انتعشت جماعات الإسلام السياسي بفوز «ممداني» بوصفه مسلماً يتحدث شيئاً من العربية بتكسيرٍ وزوجته عربيةٌ سوريةٌ، وهو معادٍ لترمب على طول الخط، والصحيح أن هذا الاحتفاء هو بسبب التحالف القديم بين اليسار وجماعات الإسلام السياسي والتبادل الطويل بين الطرفين على مستوى المفاهيم والتنظيمات، والأساليب والطرائق.

ومن هنا يتجلّى سؤال مهم، ما هو الخير الذي سبق أن رأته الشعوب العربية من اليسار؟ الشيوعي أو الاشتراكي أو الليبرالي؟ هل يجب أن نفرح فرح المراهقين لأن «ممداني» مسلمٌ بشكلٍ ما ويتحدث بعض العربية؟ وننسى أن «عبد الناصر» وناصريته، وصدام حسين وبعثيته، والقذافي واشتراكيته، جميعهم كانوا أكثر إسلاماً وعروبةً واشتراكيةً من «ممداني»؟ فهل نغض الطرف عنه عاطفياً أم نحاكم طروحاته وأفكاره بعقلانيةٍ وواقعيةٍ بعيداً عن هتافات أعداء الترمبية ولاءً للأوبامية واليسار الليبرالي الأميركي والغربي، لا خصومةً مع سياسات ترمب الخاطئة والتي تستحق الخصومة معها؟

التطرف الإسرائيلي مع «نتنياهو» وصل حداً لا يمكن للعالم أن يتحمله، وقد أصبح الشعب الأميركي مستعداً للتخلي عن إسرائيل وعن عنجهيتها ومجازرها، وهو ما أدركته إسرائيل متأخرةً وباتت تسعى لوضع خططٍ لاستعادة تأييد الشعب الأميركي بعد صدمة انتخابات نيويورك، والخبر منشور في موقع «العربية نت».

لنعد لأعظم إمبراطورية في التاريخ أميركا، ونتفق أن ترمب سمح لنتنياهو بتدمير غزة وقتل عشرات الآلاف من سكانها بتواطؤ من «حماس»، وهذا خطأ سياسي في التقدير، ولكن من الجهة المقابلة فإن «أوباما» سمح فيما كان يعرف بالربيع العربي بقتل وتشريد وتهجير عشرات الآلاف والملايين في مصر وليبيا واليمن، وسمح لبشار الأسد بارتكاب المجازر تلو المجازر، وباستخدام الأسلحة الكيماوية ضد شعبه، وأن يواصل لسنواتٍ استخدام البراميل المتفجرة، وكان أوباما يضع خطوطاً حمراء لنظام الأسد، واتضح أنها خطوطٌ وهميةٌ لم يلبث الأسد أن أدمن تجاوزها، وبرؤيةٍ ووعيٍ اختار أن يتحالف مع جماعات الإسلام السياسي سنياً وشيعياً، وهو من تبنى أكثر الاتفاقات الدولية فشلاً عبر التاريخ حين وقع «الاتفاق النووي» مع إيران وسمح لها بالتمدد في المنطقة ونشر الإرهاب والطائفية الدموية.

الدولة الوطنية الحديثة هي الأساس في العالم العربي اليوم، لا القومية العربية ولا الأممية الإسلاموية، وفقاً لتطور التاريخ المعاصر، ومن هنا فإن «ممداني» ربما داعب عواطف شعوب بعض الدول العربية، ولكنه بالتأكيد سيصطدم بسياسات وتوجهات دولٍ عربيةٍ قويةٍ وفاعلةٍ وسيصطدم بطموحاتٍ وآمال شعوبٍ عربيةٍ قويةٍ ومتعلمةٍ وفاعلةٍ، فهو واهمٌ حين يخاطب بعض الأقليات العربية في نيويورك أنه يستطيع مخاطبة الدول العربية والإسلامية وشعوبها، وعليه أن يعيد الكثير من النظر في خطابه وتوجهاته تجاه العالم.

«اليسار الإسلامي» الذي بشر به الإخواني مصطفى السباعي في كتابه «اشتراكية الإسلام» وحذر منه الإخواني الغزالي في كتابه «الإسلام في مواجهة الزحف الأحمر»، وسماه مصطفى محمود «أكذوبة اليسار الإسلامي»، وهو ما يفسر الوقوف القوي من الإسلامويين خلف السيد «زهران ممداني».

أخيراً، فليس غريباً أن يدافع الإسلامويون عن اليسار فهم من منبع واحدٍ يصدرون، ولكن الغريب حقاً وغير المفهوم أن تتصدى لدعم التحالف اليساري الإسلاموي أسماء مهمة في عالم الثقافة والسياسة والكتابة العربية، وهو ما يحتاج لتأملٍ وتعمقٍ للفهم والتحليل.

نقلًا عن صحيفة الشرق الأوسط