مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية في العراق والمقررة في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، تشهد الساحة السياسية العراقية حالة من الغليان والاضطراب غير المسبوق، وسط انقسامات حادة داخل المعسكر الشيعي الحاكم وتزايد القلق الشعبي من مستقبل العملية السياسية.
وبينما تستعد الأحزاب لخوض المنافسة، تبدو ملامح الصراع أكثر وضوحاً في البيت الشيعي، فيما تتحرك القوى السنية والكردية بذكاء لاستغلال هذا الانقسام لصالحها.
تعيش العراق مرحلة حساسة تسبق الانتخابات، إذ تتكثف التحالفات والتفاهمات بين القوى الشيعية والسنية والكردية خلف الكواليس، في ظل غياب رؤية وطنية جامعة. ووفقاً لمراقبين، فإن المشهد الانتخابي يبدو تكراراً لسيناريوهات سابقة، حيث تتحول الانتخابات إلى ساحة لإعادة تموضع القوى التقليدية أكثر من كونها فرصة حقيقية للتغيير.
الأحزاب الكبرى ما زالت تراهن على أدواتها التقليدية: المال السياسي، الولاءات الطائفية، وشبكات النفوذ الإداري، بينما يعاني المواطن العراقي من أزمات معيشية متراكمة وتراجع حاد في الخدمات العامة، مما يزيد من الفجوة بين الشارع والطبقة السياسية.
يحاول رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني تقديم نفسه كزعيم تكنوقراطي يسعى لتحقيق توازن بين مطالب الشارع وضغوط الإطار التنسيقي، وهو التحالف الشيعي الذي يضم قوى مقربة من إيران. غير أن هذا التوازن يواجه تهديدات كبيرة مع تصاعد الخلافات داخل الإطار نفسه، خصوصاً بين جناح السوداني وجناح رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي.
ويرى محللون أن التباين بين الرجلين تجاوز الخلافات الإدارية إلى صراع على النفوذ والزعامة داخل المعسكر الشيعي، مما يضع الحكومة في موقف حرج قبل أسابيع من الانتخابات.
منذ تشكيل حكومة السوداني، اتسعت الهوة داخل الإطار التنسيقي بين جناحين رئيسيين: الأول بقيادة نوري المالكي الذي يسعى لاستعادة نفوذه القديم، والثاني بقيادة السوداني الذي يحاول ترسيخ نموذج أكثر انفتاحاً ومرونة في علاقاته الداخلية والخارجية.
وقد أثار غياب السوداني عن الاجتماع الأخير للإطار الذي عقد في مكتب المالكي تساؤلات عديدة، خاصة بعد قراره إبعاد هشام الركابي، المستشار الإعلامي السابق للمالكي، من عضوية مجلس مفوضي هيئة الإعلام والاتصالات وتعيين باسم العوادي بدلاً عنه، وهي خطوة فسرها مراقبون على أنها رسالة مباشرة لتقليص نفوذ المالكي داخل مؤسسات الدولة.
في المقابل، يحاول المالكي تعزيز مكانته من خلال خطاب يدعو إلى “حماية مشروع الدولة” و“صون هيبة الإطار”، بينما يركز السوداني على صورة الزعيم التنفيذي الذي يضع “المصلحة الوطنية فوق الحسابات الفئوية”.
رغم تصاعد التوتر، لا تزال هناك محاولات لاحتواء الخلاف. وكشفت مصادر سياسية مطلعة أن عمار الحكيم، زعيم تحالف قوى الدولة الوطنية المنضوي في الإطار، يقود وساطة للتهدئة بين المالكي والسوداني. وأوضحت المصادر أن الحكيم لا يعارض بقاء السوداني في منصبه لولاية ثانية، مشيراً إلى أن الأخير يراهن على شعبيته المتنامية في الشارع، بينما يعتمد المالكي على شبكات نفوذه داخل الدولة وولاء كوادر الإطار التقليدي له.
في الوقت نفسه، تقف قوى مثل منظمة بدر وعصائب أهل الحق في موقع الوسيط الحذر، مدركة أن أي تصعيد بين المالكي والسوداني سيضعف الموقف الشيعي الموحد أمام الكتل السنية والكردية، ويفتح الباب لتدخلات إقليمية جديدة، خصوصاً من إيران والولايات المتحدة اللتين تراقبان المشهد عن كثب.
من جهة أخرى، رأت القوى السنية والكردية في الانقسام الشيعي فرصة سياسية نادرة لتعزيز مواقعها التفاوضية.
وقال الباحث السياسي أحمد عبدالسادة الحلفي إن “القوى السنية تتابع الانقسام الشيعي بقلق، لكنها تدرك أنه يمنحها مساحة أكبر للمناورة بعد الانتخابات”.
وأوضح الحلفي أن تحالف تقدم بزعامة محمد الحلبوسي يسعى إلى استغلال ضعف الجبهة الشيعية لتقوية موقفه في مفاوضات تشكيل الحكومة المقبلة، خاصة في الملفات المتعلقة بالأمن والإعمار والمناصب العليا. في المقابل، يحاول منافسه التقليدي خميس الخنجر، زعيم تحالف السيادة، التقرب من جناح المالكي لبناء تكتل مضاد داخل المكون السني.
وشهدت الأيام الأخيرة نشاطاً سياسياً مكثفاً، حيث أجرى القيادي السني شعلان الكريم لقاءات مع قيادات الإطار التنسيقي لبحث ضمانات الحفاظ على التفاهمات السياسية، بينما تحرك الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني نحو قوى سنية لتنسيق المواقف في المرحلة المقبلة.
قال المحلل السياسي الكردي إحسان عميدي إن “المشهد في كردستان العراق أكثر تعقيداً؛ فالحزب الديمقراطي الكردستاني يتعامل بحذر مع الانقسام الشيعي لأنه يخشى أن يؤدي إلى تعطيل الاتفاقات النفطية والمالية المعلقة مع بغداد”. ومع ذلك، يرى الحزب أن الانقسام يمنحه ورقة ضغط جديدة للمطالبة بتطبيق بنود الدستور المتعلقة بالمناطق المتنازع عليها وحصة الإقليم من الموازنة الاتحادية.
أما الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة بافل طالباني، فيتبنى موقفاً أكثر تحفظاً، ويميل إلى الاصطفاف مع قوى الإطار التنسيقي حفاظاً على علاقاته القوية مع طهران وبغداد. ويعتقد مراقبون أن الموقف الكردي الموحد بات أكثر مرونة، إذ تسعى الأحزاب الكردية لاستغلال اللحظة الراهنة للحصول على مكاسب تفاوضية أكبر، دون الدخول في صدام مباشر مع أي طرف شيعي.

على المستوى الإقليمي، تتابع إيران والولايات المتحدة التطورات السياسية في العراق بعين المراقب الحذر.
فإيران تسعى للحفاظ على وحدة الصف الشيعي ومنع تكرار انقسام انتخابات 2021، بينما تراهن واشنطن على دعم قوى أكثر استقلالاً لتقليص نفوذ الفصائل المسلحة في القرار السياسي العراقي.
ويرى خبراء أن الانتخابات المقبلة ستكون اختباراً حاسماً لمعادلة “الاستقرار مقابل الإصلاح” التي تبناها السوداني منذ توليه المنصب.
فنجاحه في تحقيق هذا التوازن قد يفتح الباب أمام ولاية ثانية، أما فشله في احتواء الخلاف الشيعي فقد يعيد العراق إلى مرحلة المساومات المفتوحة والفوضى السياسية.
وفي ظل هذه المعادلة المعقدة، يبقى الشارع العراقي القلق هو الطرف الأكثر ترقباً، يراقب المشهد بخليط من الأمل والحذر، متسائلاً إن كانت الانتخابات المقبلة ستكون بداية إصلاح حقيقي أم مجرد إعادة تدوير للأزمة القديمة بثوب جديد.