مكالمة واحدة كانت كفيلة بإعادة خيوط التواصل بين واشنطن وموسكو، بعدما أعلنت الولايات المتحدة وروسيا الاتفاق على عقد قمة مرتقبة بين الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين في العاصمة المجرية بودابست خلال أسبوعين.
خطوة مفاجئة جاءت في لحظة سياسية حساسة، تزامنت مع زيارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لواشنطن، في محاولة لإقناع ترامب بتزويد بلاده بصواريخ "توماهوك" الأمريكية البعيدة المدى.
الخبر جاء ليقلب المشهد الدبلوماسي رأسًا على عقب، بعد أشهر من التوتر والجمود بين واشنطن وموسكو، وليفتح باب التساؤلات: هل ينجح ترامب في كسر جدار الحرب الأوكرانية وجرّ الأطراف إلى طاولة التفاوض؟
بحسب البيان الصادر عن الكرملين، فقد جاءت المكالمة الهاتفية بمبادرة من بوتين، وتمت "في أجواء صريحة قائمة على الثقة"، وهي الصيغة التي لم تُستخدم منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا قبل أكثر من ثلاث سنوات.
بوتين استغل المكالمة لتحذير نظيره الأمريكي من أن تسليم كييف صواريخ توماهوك سيكون "خطأ استراتيجيًا" قد يضر بشكل بالغ بالعلاقات الثنائية ويقضي على فرص التسوية السلمية.
ترامب من جانبه بدا مترددًا، فقال للصحفيين في المكتب البيضاوي:"لا يمكننا استنفاد احتياطاتنا، نحن أيضًا نحتاج إلى هذه الصواريخ، لا أعلم بعد ما يمكننا فعله."
تصريحات تعكس الحذر الأمريكي في التعامل مع الأزمة، وتظهر إدراك الإدارة الجديدة لصعوبة الموازنة بين دعم كييف ورغبتها في فتح قنوات تواصل مع موسكو.
تزامنت مكالمة ترامب-بوتين مع زيارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى واشنطن، الذي حاول بدوره الحصول على دعم عسكري إضافي بعد تصاعد الهجمات الروسية على منشآت الطاقة في بلاده.
لكن المفارقة أن الإعلان عن قمة بودابست جاء عشية اللقاء الأمريكي الأوكراني، ما أرسل إشارات متناقضة حول أولويات واشنطن في التعامل مع الحرب.
زيلينسكي علّق ساخرًا فور سماع الخبر:"يبدو أن موسكو تسارع للحوار كلما سمعت عن صواريخ توماهوك."
هذه الجملة تختصر مشهدًا دبلوماسيًا معقدًا، حيث تسعى كييف للحصول على القوة، فيما تراهن موسكو على الحوار، وتبحث واشنطن عن توازن جديد يعيد رسم المشهد الدولي.
العلاقة بين ترامب وبوتين شهدت فتورًا واضحًا منذ قمتهما الأخيرة في ألاسكا، التي انتهت دون أي تقدم ملموس في الملف الأوكراني.
لكن التطورات الأخيرة تشير إلى أن صفحة جديدة تُفتح بين الزعيمين. فقد أعلن ترامب عبر منصته "تروث سوشيال" أنه تم الاتفاق على عقد اجتماعات تحضيرية يقودها وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو، يليها لقاء مباشر بينه وبين بوتين في بودابست.
وكتب ترامب:"اتفقنا على عقد اجتماع في بودابست لنرى إن كان بإمكاننا إنهاء هذه الحرب غير المشرّفة بين روسيا وأوكرانيا."
تصريحات تذكّر بخطاب ترامب الانتخابي، حين وعد بإنهاء الحرب الأوكرانية "في 24 ساعة فقط" عبر التفاوض المباشر مع بوتين، وهي وعود لا تزال تثير الجدل في الأوساط السياسية الأمريكية.
اختيار بودابست لعقد القمة لم يكن مصادفة. فالمجر، بقيادة رئيس وزرائها فيكتور أوربان، تعدّ من أكثر الدول الأوروبية قربًا من موسكو، كما تجمعها علاقات شخصية وثيقة بترامب.
أوربان علّق على منصة "إكس" فور إعلان الخبر قائلاً:"نحن مستعدّون!"
هذا الاستعداد يعكس رغبة بودابست في لعب دور الوسيط بين الشرق والغرب، وتأكيد مكانتها كجسر للحوار في أوروبا الوسطى. كما أن انسحاب المجر من المحكمة الجنائية الدولية، الذي يدخل حيّز التنفيذ في 2026، يمنح بوتين هامش أمان قانونيًا لحضور القمة دون خطر الاعتقال بسبب مذكرات التوقيف الدولية الصادرة بحقه.
وجود بوتين في دولة أعلنت انسحابها من المحكمة الجنائية الدولية يثير جدلاً قانونيًا واسعًا، لكنه في الوقت نفسه يسلّط الضوء على تراجع تأثير المؤسسات الدولية في ظل تصاعد سياسات القوة والمصالح.
فالمجر ليست الدولة الوحيدة التي ترفض الانصياع لقرارات المحكمة، بل انضمّت إلى موجة من الدول التي ترى أن المحكمة أصبحت أداة سياسية بيد الغرب.
هذا المشهد يخلق بيئة مناسبة لترامب، الذي طالما انتقد المؤسسات الدولية، واعتبرها "قيدًا على السيادة الأمريكية"، ليجد في بودابست أرضًا مريحة لعرض رؤيته الجديدة للعلاقات الدولية.
منذ عودته إلى البيت الأبيض، يسعى ترامب لإثبات أن أسلوبه المختلف في إدارة الملفات الخارجية يمكن أن يحقق ما فشل فيه سلفه بايدن.
الرئيس الأمريكي الجديد يدرك أن إنهاء الحرب الأوكرانية سيكون ورقته الأقوى داخليًا ودوليًا، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية التي تواجه الولايات المتحدة.
لكن خصومه في واشنطن يرون في تحركاته "مغامرة غير محسوبة"، معتبرين أن التقارب مع بوتين قد يفسَّر كتنازل أمام روسيا.
ورغم ذلك، يصر ترامب على المضي قدمًا، مؤكدًا أنه "لن يكون هناك سلام في أوروبا ما لم يجلس القادة الكبار على الطاولة".
في كييف، قوبلت أخبار القمة بقلق وحذر، حيث يخشى المسؤولون الأوكرانيون أن تؤدي المفاوضات المحتملة إلى تجميد الصراع على حسابهم.
ورغم أن زيلينسكي حاول إظهار الثقة، إلا أن نبرة تصريحاته الأخيرة حملت قلقًا واضحًا من أن تتحول أوكرانيا إلى ورقة تفاوض بين واشنطن وموسكو.
الصحافة الأوكرانية بدورها اعتبرت أن “قمة بودابست” قد تكون “نقطة تحول”، إما نحو السلام، أو نحو تراجع الدعم الغربي لكييف، وهو ما سيحدد مستقبل الحرب في الأشهر المقبلة.
المشهد إذن معقّد ومفتوح على كل الاحتمالات. فبينما يرى البعض في قمة بودابست بارقة أمل لإنهاء واحدة من أعنف الحروب في أوروبا الحديثة، يعتقد آخرون أنها مجرد استعراض سياسي جديد في لعبة النفوذ العالمية.
إلا أن المؤكد أن القمة، إذا انعقدت، ستكون أول لقاء مباشر بين ترامب وبوتين منذ تولي الأول السلطة مجددًا، ما يمنحها وزنًا سياسيًا خاصًا في العلاقات الدولية.
وفي الوقت الذي تترقب فيه العواصم الأوروبية والعالمية نتائج هذا التحرك، يبقى السؤال الأهم:
هل ينجح ترامب في تحويل بودابست إلى منصة سلام حقيقية، أم ستبقى مجرد محطة جديدة في صراع مفتوح على المصالح والنفوذ؟
قمة بودابست المرتقبة ليست مجرد لقاء ثنائي بين رئيسين، بل اختبار حقيقي للنظام العالمي الذي تشكّل بعد حرب أوكرانيا.
فإذا نجح ترامب في كسر جدار الحرب، فسيكون قد أطلق شرارة مرحلة جديدة من التوازن الدولي.
أما إذا فشلت القمة، فستظل الحرب مستمرة، وستبقى بودابست مجرد عاصمة أوروبية أخرى شهدت محاولة سلام لم تكتمل.