مع انتهاء العمليات العسكرية في قطاع غزة ودخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، برز مشهد جديد يعكس حجم التحولات الداخلية التي يشهدها القطاع.
فبينما تحاول حركة “حماس” إعادة تثبيت سلطتها بعد أشهر من الحرب المدمرة، وجدت نفسها في مواجهة تحديات داخلية متصاعدة من قِبل عشائر محلية قوية بدأت تُظهر رفضًا متزايدًا لهيمنتها المطلقة على غزة.
وخلال الأيام الأخيرة، اندلعت مواجهات عنيفة بين مسلحي “حماس” وعدد من العشائر البارزة التي تتهم الحركة بممارسة القمع والانتقام بعد الحرب، في وقت تحاول فيه الحركة السيطرة على المشهد الأمني والسياسي مستفيدةً من الضوء الأخضر الأمريكي المؤقت الذي منحها صلاحية ضبط الأمن داخل القطاع المنهك.
تقول مصادر محلية في غزة إن المواجهات الأخيرة كشفت هشاشة الوضع الداخلي، إذ تسعى “حماس” لفرض سيطرتها الكاملة على القطاع وإسكات أي أصوات معارضة، بينما ترى العشائر أن الفرصة باتت سانحة لاستعادة نفوذها التقليدي الذي تآكل خلال السنوات الماضية.
ومع تراجع القوة العسكرية لـ“حماس” بفعل الحرب، بدأت بعض العشائر في تشكيل مجموعات مسلحة خاصة بها لحماية مناطقها أو لمواجهة تجاوزات عناصر الحركة، الأمر الذي جعل القطاع ساحة صراع داخلي يهدد استقراره أكثر مما هو عليه.
تُعد عشيرة “أبو شباب” واحدة من أبرز القوى المحلية التي دخلت في مواجهة مفتوحة مع “حماس”.
ويقودها ياسر أبو شباب، أحد الزعماء البارزين في منطقة رفح جنوب القطاع، والذي يُعرف بموقفه المناهض للحركة. وتتمركز مجموعته في مناطق تقع ضمن نطاق سيطرة القوات الإسرائيلية مؤقتًا، ما منحها هامش حركة أوسع من غيرها.
وبحسب مصدر مقرب من أبو شباب، فإن مجموعته نجحت في استقطاب مئات المقاتلين من خلال إغراءات مالية ورواتب مغرية، في وقت تتهمه “حماس” بالتعاون مع إسرائيل، وهي تهمة ينفيها بشدة.
ويؤكد مقربون منه أن هدفه هو "حماية أهالي رفح من انتهاكات عناصر حماس"، فيما تشير تقديرات إلى أن القوة التابعة له تضم نحو 400 مقاتل من أبناء العشيرة.
رغم ذلك، يبقى موقف باقي أفراد عشيرة أبو شباب غير موحد، إذ لا توجد مؤشرات واضحة على أن العشيرة بأكملها تقف خلف قائدها، وهو ما يجعل النزاع الداخلي أكثر تعقيدًا.
أما عشيرة دغمش فتُعد من أكبر العشائر في غزة وأكثرها تسليحًا ونفوذًا.
تاريخيًا، احتفظت العشيرة بترسانة أسلحة كبيرة تعتبرها ضرورية للدفاع عن أراضيها ومصالحها.
ولطالما انقسم ولاء أبنائها بين حركتي فتح وحماس، إلا أن جناحًا منها اتخذ موقفًا أكثر تشددًا تجاه الحركة المسيطرة على القطاع.
ويقف ممتاز دغمش، أحد أبرز زعماء العشيرة، خلف تاريخ طويل من المواجهات المسلحة.
فهو القائد السابق للجناح العسكري للجان المقاومة الشعبية، ومؤسس تنظيم “جيش الإسلام” الذي أعلن مبايعته لتنظيم داعش الإرهابي في وقت سابق.
كما شارك مع “حماس” في عملية أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط عام 2006 قبل أن يُطلق سراحه في صفقة تبادل.
إلا أن علاقة دغمش مع “حماس” ساءت لاحقًا، خاصة بعد رفضه نزع سلاح جماعته، ما أدى إلى اشتباكات دامية بين الجانبين على مدار السنوات الماضية.
وتجددت المواجهات الأحد الماضي ومطلع الأسبوع الحالي بين مسلحي العشيرة وعناصر من “حماس”، ما أسفر عن مقتل عدد من الطرفين، بحسب مصادر أمنية محلية.
ورغم أن ممتاز دغمش لم يظهر علنًا منذ سنوات ولا يُعرف مصيره بدقة، فإن تأثيره لا يزال قائمًا داخل العشيرة، التي ترى أن “حماس” تحاول إضعافها لصالح فرض هيمنة مركزية لا تقبل الشركاء.
في مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، تصدرت عشيرة المجايدة المشهد خلال الأشهر الماضية بعد سلسلة اشتباكات مع “حماس”.
وتقول مصادر من داخل العشيرة إن التوتر بدأ حين اتهمت الحركة بعض رجالها بقتل عناصر تابعين لها، ما دفعها لاقتحام مناطق العشيرة واعتقال عدد من أفرادها.
لكن العملية تحولت إلى معركة مفتوحة استخدمت فيها الأسلحة الثقيلة، وأسفرت عن سقوط قتلى من الجانبين.
ورغم أن حماس حاولت تبرير الحملة بأنها “عملية أمنية لفرض النظام”، فإن أفراد العشيرة يرونها “استهدافًا سياسيًا” يهدف إلى تصفية حسابات قديمة.
وأشار بعضهم إلى أنهم عثروا على وثائق بحوزة عناصر من “حماس” قُتلوا في الاشتباك، تتضمن أوامر بتصفية أسماء بعينها داخل العشيرة.
وفي محاولة لاحتواء الأزمة، أصدر زعيم عشيرة المجايدة بيانًا على مواقع التواصل الاجتماعي أكد فيه دعم العشيرة للحملة الأمنية الهادفة –بحسب تعبيره– إلى “الحفاظ على الأمن ومنع الفوضى”، داعيًا أبناءه إلى التعاون مع أجهزة الحركة.
ويرى مراقبون أن هذا البيان جاء تحت ضغوط ميدانية كبيرة من “حماس” التي لا ترغب في فتح جبهة جديدة مع عشيرة قوية تملك انتشارًا واسعًا في خان يونس.
في قلب مدينة غزة، وتحديدًا في حي الشجاعية، يبرز اسم رامي حلس كأحد الأصوات المعارضة للحركة.
ينتمي حلس إلى عشيرة كبيرة تمتلك نفوذًا تاريخيًا في المدينة، وقد شكّل مع أحمد جندية –وهو أحد وجوه عشيرة أخرى بارزة– مجموعة مسلحة صغيرة في الأشهر الأخيرة، تتحدى سلطة “حماس” وتسيطر على مواقع محدودة داخل مناطق لا تزال خاضعة للجيش الإسرائيلي.
وتتهم الحركة كليهما بالعمالة والتنسيق مع جهات خارجية، بينما يصفهما مؤيدوهما بأنهما “رمزان للمقاومة الداخلية ضد استبداد حماس”، بحسب منشورات تم تداولها على منصات التواصل الاجتماعي في غزة.
هذه التحركات العشائرية، وفق محللين فلسطينيين، لا يمكن النظر إليها بمعزل عن حالة الغضب الشعبي المتصاعدة في القطاع نتيجة الحرب الطويلة والدمار الهائل الذي لحق بالبنية التحتية والاقتصاد.
فقد تراجعت قدرة “حماس” على إدارة شؤون الحياة اليومية، وبرزت أصوات تتهمها بإساءة استخدام سلطتها في ظل غياب أي مؤسسات رقابية مستقلة.
ويرى خبراء أن تفكك الجبهة الداخلية في غزة يمثل تهديدًا خطيرًا للحركة التي بنت قوتها على احتكار القرار العسكري والسياسي، مشيرين إلى أن التمرد العشائري الحالي قد يكون بداية لتحدي أكبر في حال استمرار الفوضى الأمنية وانعدام الخدمات الأساسية.
في المقابل، تشير تقارير إعلامية إلى أن “حماس” تلقت ضوءًا أخضر أمريكيًا مؤقتًا لإعادة ضبط الأمن في القطاع عقب وقف إطلاق النار، باعتبارها الجهة الوحيدة القادرة –حاليًا– على إدارة الوضع الميداني.
لكن هذا الدعم المحدود لا يعني قبولًا دوليًا دائمًا للحركة، بل هو خطوة تكتيكية تهدف إلى منع انهيار أمني شامل، في انتظار بلورة تسوية سياسية مستقبلية تشارك فيها أطراف فلسطينية أخرى.
مع كل هذه المعطيات، تبدو غزة مقبلة على مرحلة غامضة من الصراع الداخلي.
فالعشائر التي تمتلك السلاح والخبرة باتت لاعبًا رئيسيًا لا يمكن تجاهله، بينما تحاول “حماس” التمسك بسيطرتها وسط ضغوط داخلية وخارجية متزايدة.
ويبقى السؤال المطروح: هل تنجح الحركة في إعادة فرض النظام كما كانت قبل الحرب، أم أن العشائر ستفرض واقعًا جديدًا يعيد رسم خريطة السلطة في القطاع؟
المراقبون يرون أن الإجابة ستعتمد على قدرة “حماس” على التوازن بين القبضة الأمنية والحوار المجتمعي، وعلى مدى استعدادها لتقاسم النفوذ مع القوى المحلية التي لم تعد ترضى بالبقاء على الهامش.