آراء وأقلام

حازم صاغية يكتب: «... عن غزّة وفلسطين و7 أكتوبر»

الأربعاء 08 أكتوبر 2025 - 05:28 ص
حازم صاغية
حازم صاغية

لم ترتفع إلاّ أصوات قليلة، مبعثرة ومتردّدة، في وجه «خطّة ترمب» لإنهاء حرب غزّة. وهذا ليس مردّه إلى اقتناع تلك الأصوات بها، أو إلى كمال فيها يبرّئها من كلّ عيب. لكنّ الخطّة إذا كانت قابلة للطعون، وهي كذلك، ففي الماضي القريب كان ما هو أقلّ كثيراً منها يُشعل الأهاجي، ويذكّرنا بما أنزله بنا «الرجل الأبيض» على امتداد تاريخ مديد أسود.

بطبيعة الحال سوف يكون من الصعب التشهير بخطّة تقدّم نفسها طريقاً إلى وقف الموت، ونعرف أنّ الإباديّة الإسرائيليّة في غزّة أوغلت في القتل على نحو لم يَحلْ استفظاعه دون استمراره، كما سيكون صعباً التشهير بما تتواضع أغلبيّة فلسطينيّة واضحة على تثمينه والتمسّك به. مع هذا فإنّ الذين كانوا يغضّون، في العادة، النظر عن الموت باسم «القضيّة»، بل يوقدون نار «القضيّة» بموتى مرغوبين، من غير أن يعبأوا بتاتاً برغبات الفلسطينيّين، تغيّرَ سلوكهم على نحو ملحوظ هذه المرّة.

ولا تسمح المعرفة بمعظم هؤلاء وبعواطفهم أو طرقهم في التفكير بافتراض أنّ تجنّب الموت كان دافعهم إلى الصمت، أو حتّى إلى إعلان القبول والموافقة. وأمّا الافتراض الأشدّ ترجيحاً فأنّ «القضيّة» ذاتها باتت، بحسب ما آل إليه توازن القوى الراهن، تعاني وَهَناً يكاد يستحيل شفاؤها منه. ومن تفرّعات ذلك أنّ الدفاع عن وجود «حماس» في غزّة صار هو ذاته مهمّة مستحيلة، على ما يرى حتّى بعض أصدقاء «حماس»، فيما غدا التخلّص من هذا الوجود أقرب إلى إجماع إقليميّ ودوليّ. كذلك بات من فضائل الممانعين، ولم يكونوا مرّةً مُقلّين في الوعود والتعهّدات اللفظيّة، ممارسة الخَرَس الذي ينمّ عن انعدام القدرة على القول، ناهيك عن انعدام الخطط والاستراتيجيّات من كلّ نوع.

وبلوغ الأمور هذا الدَرَك هو ما أتاحه بكفاءة «طوفان» السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، الذي مرّت ذكراه الثانية يوم أمس، والذي سبق لمُمجّديه الكثيرين أنّ أسبغوا عليه صفات أقلّها بثّ الحياة في «القضيّة»، وليس أكثرها «تحرير فلسطين من النهر إلى البحر».

وها نحن اليوم أمام حالة يتصدّرها العنوان الإنسانيّ فيما يضمر عنوانها السياسيّ ويتضاءل، بل ربّما بِتنا أمام سكّان فلسطينيّين من دون قضيّة فلسطينيّة، أي أمام بشر مقهورين ومعذَّبين يستحقّون أن تُكتب لهم حياة لائقة بالبشر وأن يُرفع عن رؤوسهم سيف القتل الإسرائيليّ. ولسوف تتواصل بالتأكيد الجهود السياسيّة، العربيّة والدوليّة، لإقامة دولة فلسطينيّة، إلاّ أنّ بلوغ الهدف هذا بات، بعد 7 أكتوبر وبسببه، أصعب كثيراً، وبلا أيّ قياس، ممّا كان من قبل.

بيد أنّ ذاك «اليوم المجيد» كان أشبه بتتويج بالغ البشاعة لتاريخ «القضيّة» المأسويّ في وجهه الأكثر إظلاماً، أي ذاك الوجه الذي ربطها بالحروب الأهليّة وبالمقاومة العسكريّة، في موازاة ربط المقاومة تلك بأنظمة الممانعة القوميّة والإسلاميّة، ودائماً الأمنيّة. وهذا بينما حظي الوجه السياسيّ لـ «القضيّة»، والذي تُوّج بمؤتمري مدريد ثمّ أوسلو، بالتقبيح والإدانة المتواصلين.

هكذا، ومثلما كان لهزيمة 1967 أن أحلّت شعار «محو آثار العدوان» محلّ شعار «تحرير فلسطين»، استأنف القضم عمله بحيث حلّ «الإنسانيّ»، في يومنا هذا، محلّ «السياسيّ»، وحلّت غزّة محلّ فلسطين.

أمّا «القضيّة» التي ما زالت قائمة فهي «قضيّة» النظام الإيرانيّ التي باتت تواجه العالم من دون حزام «القضيّة الفلسطينيّة». فهي، ومعها ملحقاها اللبنانيّ واليمنيّ، أضحت هي نفسها خطّ دفاعها الأخير عن نفسها. وهذا بذاته إنّما ينمّ عن دمار الخطّة التي طوّرتها ثورة إيران ونظامها وعن الهباء المنثور الذي انتهت إليه المليارات التي أنفقت للغرض هذا والجهود التي بُذلت في سبيله.

وأغلب الظنّ أنّ الانتقال من المرحلة السابقة ذات التخمة شبه الأمميّة، العابرة للحدود والمُصدّرة للثورات، التي ظهرت بواكيرها مع الحرب العراقيّة – الإيرانيّة، إلى المرحلة الراهنة حيث تكاد تنحصر «الثورة» في بلد واحد، سوف تكون لها تأثيراتها الكبرى التي يصعب أن ينجو منها الداخل الإيرانيّ نفسه.

لكنّ إسرائيل بدورها قد تدفع، في حال نجاح الخطّة الأميركيّة، أثماناً لا تسلبها انتصارها العسكريّ، وإن كانت تضبطه، لكنّها لا تتجاهل هزيمتها السياسيّة والإعلاميّة. وفي هذه الحال، وبانتخابات عامّة أو من دونها، يلوح بنيامين نتنياهو ومعه الأحزاب الدينيّة المتطرّفة وقطعان المستوطنين بوصفهم تلك الأثمان المحتملة.

في الحالات جميعاً نقف أمام مستقبل لا يزال الغامض فيه أكثر كثيراً من الواضح. إلاّ أنّ المؤكّد أنّ يوم 7 أكتوبر وما نجم عنه يحضّان على مراجعات جذريّة لم تبدأ بعد، وعلى سياسات وشعارات يشوبها بعض التواضع والإدراك لتوازنات القوى. أكثر من هذا، تبدو منطقة المشرق العربيّ كلّها مدفوعة إلى الانكباب على أزمة وجوديّة وحضاريّة تضربها من أقصاها إلى أقصاها، أزمةٍ يشكّل العنف الإسرائيليّ وما نجم عنه أحد وجوهها، لكنّ من وجوهها الأخرى البارزة تلك «القضيّة» التي سوّغت مقاومة إسرائيل بـ 7 أكتوبر.

نقلًا عن صحيفة الشرق الأوسط