في ضوء التحولات التي طرأت على تاريخ الفكر الإنساني في مختلف الحقول المعرفية، ولا تزال تحدث وستستمر، يعتبر موضوع النُخبة السياسية من أهم موضوعات علم الاجتماع السياسي، التي يذهب أنصارها إلى أنها حقيقة موضوعية، حيث ساهمت وبشكل مباشر الكثير من الدراسات النظرية في تقارب التعريفات التي تخص النُخبة.
من هذا المنطلق، شكلت النُخب في ذاتها ظاهرة سياسية واجتماعية هامة في التاريخ، واستقطبت جهود الباحثين والدارسين في مختلف الاختصاصات والميادين، الذين درسوا وقيموا نظرية النُخبة منذ العصور الوسطى. لاسيما أن سلطة الملوك في العصور الوسطى كانت سلطة مطلقة، حيث كان الملك يمثل بصفته النُخبة الحاكمة ويعتبر ممثلا عن الله، وكان يتم تنصيبه من قبل رئيس الأساقفة وسط مجموعة من الطقوس الدينية، وإن سلطة الملوك واحدة لا تتجزأ، ولا تمنح لشخص أو مؤسسة غيره، بيد أن كل المؤسسات الأخرى مثل المجالس الاستشارية والهيئات العليا والمجالس الإقليمية، ليست سوى مؤسسات استشارية. في الوقت نفسه كان الملك يمثل مصدر العدل والقانون، فهو الذي يصدر التشريعات ويحكم، وهو صاحب قرار الحرب أو السلام. على سبيل المثال لا الحصر، في الصين كانت النُخبة هي طبقة الكاهن التي تحكم في ظل الإمبراطور والذي يُطلق عليه (أبن السماء) فهو الحاكم باسم الله وإرادته، وهو يمثل ظل الله في الأرض، وعلى الشعب كله أن يدين بالولاء المطلق والطاعة العمياء للإمبراطور وحاشيته وكهنته الذين يمثلون طبقة النُخبة. حيث كان الإمبراطور يحتكر جميع السلطات بالمطلق. (أحمد عزت، الثورة الفرنسية العظمى ملحمة قلبت وجه التاريخ)
ومن أشهر رواد نظرية النُخبة في العالم وأحد مؤسسيها الفيلسوف الفرنسي (باريتو) فهو يرى" أن النُخبة هم أولئك الذين يتفوقون في مجالات عملهم في مباراة الحياة ". وحين يجد أن هذا التعريف مستوف يستدرك الأمر وينتقل إلى المجال الأضيق في تعريف النُخبة، فيقوم بربط مفهوم النخبة الاجتماعية بقدرة هؤلاء المتفوقين على ممارسة وظائف سياسية أو اجتماعية تخلق منهم طبقة حاكمة ليست بحاجة إلى دعم وتأييد جماهيري لأنها تقتصر في حكمها على مواصفات ذاتية تتمتع بها، وهذا ما يميزها ويؤهلها لاحتكار المناصب.
أما عالم السياسة (هارولد لاسويل) الذي ساهم بشكل كبير في تحليل عملية صنع السياسة العامة، يبين بأن النُخبة " هي جماعة قليلة العدد من أفراد الشعب، تملك معظم مصادر الإنتاج في الدولة وتحصل على أكثر شيء يمكن الحصول عليه من المجتمع كالقوة الاقتصادية والصناعية والزراعية والمكانة الاجتماعية والقوة السياسية وما ستجنيه هذه القوة من فوائد شتى". (محمود الزعبي، دراسات في علم السياسة ص17)
ويقر المفكر الفرنسي (سان سيمون) وهو من أوائل من وضعوا أسس تحليل النخبة السياسية بمنهج سوسيولوجي، أن وجود النُخبة أمر ضروري لابد منه في الحياة الاجتماعية، مؤكدا في الوقت ذاته على الدور الكبير الذي تلعبه النُخبة في إصلاح المجتمع والنهوض بالحياة السياسية فيه، حيث ذهب سيمون إلى الاعتقاد بأنه لايمكن تحقيق الإصلاح السياسي إلا بتغيير النُخبة أو تثويرها، لذا ينبغي وبحسب رأيه أن تُسند مهمة الحكم إلى النُخب الذكية مثل العلماء والفنانين الكبار ورجال الصناعة. وضمن هذه الرؤية يؤكد على أهمية المؤهلات العلمية والفكرية رافضا الانتماء الأسري والانتماءات التقليدية الأخرى في تشكيل النُخب وتأهيلها. (إبراهيم خليل، محاضرات في علم الاجتماعي السياسي)
وقد وضح المصلح الألماني (مارتن لوثر) مفهوم النُخبة حيث قال " إن سعادة الأمم لا تتوقف على كثرة دخلها، ولا على قوة حصونها، أو جمال مبانيها العامة، ولكنها تتوقف على عدد المثقفين من أبنائها وعلى رجال التربية والعلم والأخلاق فيها، فهناك تكون سعادتها وقوتها العظيمة ومقدرتها الحقة في نُخبها الحاكمة. (مفهوم النخبة مقاربة بنائية ص18)
وأعطى عالم الاجتماع البروفيسور (دينكن ميشيل في معجمه علم الاجتماع) تعريفا للنُخبة يتعدى مفهوم السيطرة السياسية، ليعني أي جماعة أو صنف من الناس أو مجموعة من الأفراد يمتلكون بعض الصفات والقدرات كالقابلية العقلية العالية في المراكز الإدارية الحساسة، القوة العسكرية، السلطة الأخلاقية أو السمعة العالية والتأثير الكبير، وإن هؤلاء الأفراد الذين يتمتعون بهذه الصفات قد يتميزون بالتماسك أو الفرقة والانقسام وقدراتهم في التأثير في الجماهير تفوق قدراتهم في حكم الجماهير. بمعنى أنها جماعة أو نخبة من الأفراد يُعترف بعظمتها في التأثير والسيطرة على شؤون المجتمع وهي الأقلية الحاكمة التي تتمتع بسلطان القوة والنفوذ والتأثير أكثر مما تتمتع به الطبقة المحكومة، والنُخب بهذا المعنى تكون أقلية متماسكة.
في السياق ذاته استخدم المفسرون من فقهاء الإسلام مصطلح النُخبة بلفظ (الصفوة)، وقد جاءت معاني لفظ (الصفوة) بوصفها مصطلحاً قرآنياً لتؤكد نظرية الصفوة بدلالاتها وبعدها الإسلامي. حيث استعملها المفسرون على حسب السياق القرآني الذي يدخل ضمن معاني الاصطفاء والانتقاء والاختيار في أكثر من موضع. فمثلاً أثناء الحديث عن الأنبياء باعتبارهـم صفوة الخـلق كما أورد ذلك القرطبي في تفسيره (وأنبياء فهم صفوة الخلق). وكذلك ذكر أبن كثير في تفسيره أيضاً وهو يتحدث عن النبي موسى عليه السلام (موسى صفوة الله). وارتقى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى مستوى أعلى من الاصطفاء ليكون حبيب الله، نتيجة صبره وتحمله أذى قومه ولما أنجزه من تغيير، غير معتمد على كثرة المعجزات. (عمر عبيد مفهوم النخبة في المنظورين الإسلامي والغربي)
تأسيسا لما تقدم، أن النُخب تشمل نوعين من الأفراد، الأول الذي يُعرف بالنُخبة السياسية، النوع الثاني يسمى النُخبة العامة غير السياسية وهي التي تكون غير مرئية فوق كراسي الحكم ولا تتمتع بالسلطة الشرعية، لكنها تتفاعل مع النُخب السياسية في تحقيق بعض مصالحها وغاياتها. وسواء كانت نُخب سياسية أو غير سياسية، فهما الفئات التي تتميز عن باقي المجتمع، من خلال قدرتها على الفعل والإنتاج في مجالها المحدد، سياسة واقتصاد ثقافة علوم الخ. وحين نقول نُخب سياسية فلابد أننا نعني بها الأفراد والجماعات التي تمتلك خطاباً سياسيا وتفترض نفسها قائدة أو موجهة للمجتمع أو لمكونات منه، من ثم تسعى إلى الفوز بالسلطة السياسية عبر وسائل مشروعة. كما أن عبارة نُخب ثقافية تحيلنا إلى أفراد وجماعات أيضاً تهتم بالشأن الثقافي وتسعى لممارسة التأثير على ذهنية المجتمع وقيمه ومعتقداته وأفكاره وأخلاقه وحتى عاداته وتقاليده. في الوقت نفسه لا توجد معايير دقيقة أو حدود صارمة ونهائية يمكننا من خلالها اعتماد معرفة وفرز من هم في ضمن النُخب لسياسية أو الثقافية ومن هم خارجها.
بالتالي تشكل دراسة مفهوم النُخبة أحد أهم المفاهيم في تحليل الظواهر الاجتماعية والإنسانية، وتحديدا القضايا التي تتصل بالسلطة. لقد كتب في مفهوم النُخبة كثيرا من الباحثين والمفكرين، حين حاولوا الخوض في عمق الظواهر الإيديولوجية للحياة السياسية في سياق تفاعلاتها وتكاملها. وبالرغم من توسع المشاركة الجماهيرية في الحياة السياسية (انتخابات ومجالس شعب وشورى، ومنظمات مجتمع مدني وغيرها) والتي عكست تقدما كبيرا في الديمقراطية، لكن ما تزال النُخب قوة فاعلة وحاضرة لا يستهان بها في ممارسة دورها الريادي في توجيه المجتمع وتحديد مساره في مختلف الاتجاهات والمجالات. لقد بينت كل النظريات في علم الاجتماع السياسي (النظريات السوسيولوجية) وغيرها أن الُنُخب ليست حالة عارضة في المجتمعات، بل هي حالة عامة وجوهرية ولا يمكن للحياة الاجتماعية أن تتم بدون وجود نُخب سياسية واجتماعية وثقافية قادرة على توجيه مسار المجتمع في الاتجاهات الصحيحة. وعلى الرغم من ظهور بعض النظريات والاتجاهات التي كانت تنادي إلى أهمية الجماهير في قيادة مجتمعاتها، لكنها لم تتمكن من انتزاع الدور الريادي التاريخي للنُخبة.