في حرب 1956، حقق الرئيس جمال عبد الناصر انتصاراً سياسياً رغم الهزيمة العسكرية. فقد أجبر الرئيس الأميركي أيزنهاور فرنسا وبريطانيا وإسرائيل على وقف حربهم التي دُبّرت من وراء ظهره بعد قرار تأميم قناة السويس. وكان أيزنهاور يسعى إلى استمالة عبد الناصر نحو المعسكر الغربي بعيداً عن الاتحاد السوفياتي (محاولة فشلت، وندم عليها لاحقاً).
استثمر عبد الناصر هذا الانتصار السياسي بمهارة، إذ صوّرته الآلة الدعائية بوصفه رسول القومية، وزعيم الأمة الذي تحدى قوى «الاستكبار الإمبريالي»، وتعهّد بهزيمة «القوى الرجعية»، وإعادة المجد للعرب. ولذا لا يندهش من يعرف تلك الحقبة من خطاباته التي هاجم فيها الملوك والزعماء بلغة قاسية؛ فقد كانت ذروة مرحلة جنون العظمة.
لكن ماذا جرى بعد ذلك؟
في حرب 1967 وقعت الهزيمة القاسية التي حطمت صورة «الزعيم»، وأنهت عملياً مشروعه. التسجيلات التي كُشف عنها مؤخراً مع الرئيس الموريتاني المختار ولد داداه تكشف حالة الضعف والانكسار التي عاشها، إذ اشتكى من «المزايدين» الذين أرهقوه نفسياً أكثر من إسرائيل. قال إنهم يطالبون مصر بالقتال، بينما يكتفون بالشعارات من بعيد، واعترف بأنه أضر بالتنمية بسبب تضخم ميزانية التسليح، مؤكّداً أن الحل ينبغي أن يكون سلمياً، لا عسكرياً. هكذا تحوّل «المُزايِد» قبل 1967 إلى فريسةٍ للمزايدين بعد الهزيمة، خاصة مع نهجه الواقعي في قبول مبادرة روجرز.
ثم جاء أنور السادات، «المُزايَد عليه»، الذي لم تتوقف الحملات ضده منذ اللحظة الأولى. صحّح السادات أخطاء سلفه، وانتصر في حرب أكتوبر 1973 التي أنهت الجمود، واستطاع عبر المفاوضات استعادة سيناء التي احتُلت عام 1967. كان هدفه المركزي ألّا يتقدّم خطوة إلى الأمام وأرضه محتلة. وبعدها أبرم معاهدة سلام جنّبت مصر حروباً مدمرة، وأصبحت لاحقاً واقعاً ثابتاً في تاريخ المنطقة.
ورغم الإنجاز، ظل السادات هدفاً لحملات تشويه، واغتيال معنوي، لكنه لم يلتفت إليها، ومضى في طريقه. واليوم، بعد عقود، يتضح أنه كان محقاً في رؤيته السياسية. باختصار، يمكن أن نرى تاريخنا وواقعنا في المنطقة في سيرة هذين الرجلين المهمين، المُزايِد الذي هُزم، والمُزايَد عليه الذي انتصر.
نقلًا عن صحيفة الشرق الأوسط