آراء وأقلام

غسان شربل يكتب: «خطة توزيع كؤوس السُّم»

الإثنين 29 سبتمبر 2025 - 08:42 ص
غسان شربل
غسان شربل

كان بنيامين نتنياهو يشتهي بالتأكيد مشهداً آخر. كان يتمنَّى أن يعلنَ من القدس نهاية الحرب بعد استسلام أعداء إسرائيل. لم يحدث ذلك. الضَّربات القاضية شديدة الصعوبة في هذا النّزاع الطويل. سيشق اليوم طريقه إلى موعد صعب. موعد يشبه الاستدعاء من قبل سيّد البيت الأبيض الذي لم يبخل عليه بالدّعم. الرّجل الذي شاركه معاقبة إيران وهاجمت طائراته منشآتها النووية.

في الطريق إلى البيت الأبيض سيعزي نتنياهو نفسه بما يعتبره إنجازاته. حوّل «طوفان السنوار» إلى حرب وجودية. قاتل على سبع جبهات. شطب غزةَ من الخريطة فغطّت حقول الركام أنفاقَ «القسام». قتلَ من الفلسطينيين أضعافَ ما قتل أسلافه. قتل إسماعيل هنية في طهران ويحيى السنوار وشقيقه ومحمد الضيف وآخرين. يصعب على هذا الرجلِ تذكر كلّ أسماء من قتلهم. الأكيد أنّه أخرج قطاع غزةَ من النزاع العسكري مع إسرائيلَ وهو يشترط لوقف النار إخراج «حماس» منه. وكلّ المشاريع المطروحة تنصّ على أن لا مستقبل لـ«حماس» في غزة.

يغالب قلقه من الموعد بتعداد ما يعتبره إنجازاته. أخرج ورثةَ قاسم سليماني من سوريا بعد عقود من التَّخندق فيها. دفع بشار الأسد ثمناً باهظاً لانخراطه في «محور الممانعة» وفرّ إلى روسيا. يبتسم ويقول لنفسه: من كان يصدّق أن قاضياً سورياً يجرؤ على إصدار مذكرة توقيف غيابية بحقّ نجل حافظ الأسد الذي اقتلعت تماثيلُه كما اقتلعت تماثيل صدام حسين. يتمتم. يصعب الوثوق بالنوايا العميقة لأحمد الشرع. لكن ميزان القوى الذي فرضته الحربُ لا يترك له خياراً. إنقاذ وحدة أراضي سوريا يمرّ حكماً بخروجها من الشق العسكري للنزاع مع إسرائيل: اتفاق أمني، ومنطقة عازلة، وضمانات أميركية. اختار الشرع الصعود إلى القطار الدولي وثمن البطاقةِ معروف.

يواصل التحدث إلى نفسه. في اليوم التالي لـ«طوفان السنوار» اختار حسن نصر الله الانخراطَ في الحرب. توهّم «حزب الله» أنَّنا سنلاعبه تحت سقف «قواعد الاشتباك». لم يدرك أن ما بعد «طوفان السنوار» ليس كما قبله. فتكتِ الآلةُ الإسرائيلية بقادة الحزب. ميزان القوى الجديد واضح. من دون العمق السوري لا يستطيع الحزب شنَّ حرب على إسرائيل. ترسانته تحوَّلت للمرة الأولى إلى مشكلة داخلية وتسمَّمت علاقاته بالمكونات الأخرى. خسر غلالة الشرعية التي كانتِ السلطة اللبنانية توفرُها لسلاحه. واضح أنّ إيران لن تقبل بخسارة لبنان بعد خسارتها سوريا، لكن إعادة الماضي لم تعد واردة. التطبيق الحازم لوقف العمليات العدائية يعني ببساطةٍ خروجَ لبنان من الشق العسكري في النزاع مع إسرائيل.

يذكر نفسه بأنّه اتخذ قراراً بالغ الخطورة: معاقبة الأصيل بعد الوكيل. سيطرت طائراته على أجواء طهران بعدما فاجأت جنرالات وعلماء نوويين وقتلتهم. قلب اللعبة وأطلق آلته الحربية على بلاد سليماني. حرمَها مما أتقنته على مدار عقود، وهو إدارة الحرب عبر الوكلاء. يتمتم. إيران ما بعد «الطوفان» لا تشبه إيران قبله. أصيب محورها، وأصيب دورُها، وأصيبت هالتُها. اقتصادها ينزف وعملتُها تنتحر وها هي العقوبات تلامس أجواءَها بإصرار أوروبي واضح. تذكر الحوثيين وصواريخهم ومسيراتهم. الضربة التي وجهها إلى حكومتهم لم تشفِ غليله. يحلم بتصفية الحساب معهم على رغم المسافة ومساهمة الجغرافيا في حمايتهم.

لم تجد إسرائيلُ في البيت الأبيض صديقاً أفضلَ من دونالد ترمب. أعطاه دعماً غير محدود، وأعطاه الوقت تلوَ الآخر لحسم حروبه. وهو أدار العلاقة معه ببراعة. يستحسن عدم إغضاب هذا الرجل، لأنّه يذهب بعيداً حين يغضب أو يشعر أن شريكه يخدعه. لا يخالجه شكّ في أنَّ إسرائيل قلعة عسكرية صلبة خصوصاً بفضل تفوقها التكنولوجي الذي تبدى بوضوح في حروبها الأخيرة. لكنّه يعرف أنَّ ديمومة هذه القلعة مرهونة بشريان الدعم الأميركي العسكري والدبلوماسي. مفتاح القلعة الإسرائيلية موجودٌ في البيت الأبيض. لهذا لا يجوز إغضاب «جنرال» المكتب البيضاوي.

يشعر أنَّ إسرائيل قوية. لم تعد مهددةً، لا من غزةَ ولا من لبنانَ ولا من سوريا ولا من إيران. لكنّه يشعر في الوقت نفسه بشيء من المرارة. مغادرة الأكثرية الساحقة من الوفود قاعةَ الجمعية العامة للأمم المتحدة أشعرته أنَّ القلعة الإسرائيلية مهدّدة بعزلة فعلية. عزلة لا يفهم أخطارها شركاؤه المتعصبون في الحكومة.

شيء من المرارة وكثير من القلق. قتل كثيرين لكن شبحاً يطل برأسه وهو يعتبره الأخطر. وقف النار لن يؤدي إلى إعادة الرهائن والجثث فقط. سيؤدي أيضاً إلى عواصفَ ومحاكمات في الداخل الإسرائيلي. ومن يدري فقد يجلس في مكانه من يضطر إلى التسليم بقيام الدولة الفلسطينية. يلمح شبح هذه الدولة مختبئاً في الدعوات إلى وقف النار والتعايش السلمي. شبح الدولة حاضر في بنود الخطة الأميركية. تعهّدُ ترمب بمنعه من ضم الضفة أو أجزاء منها بالغُ الدلالات. يقلقه تعطشُ ترمب إلى إنهاء الحرب وتعطشُه إلى جائزة نوبل.

تقترب السيارةُ من البيت الأبيض. تراوده فكرةٌ موجعة. وزّع كؤوس السم على من أطلقوا الصواريخ على إسرائيل. لكن موعده اليوم يثير شكوكه: هل تعب ترمب من مساعدة إسرائيل وارتكاباتها؟ هل سيرغمه على تناول كأس السّم؟ هل ربح حروبه على جبهات عدة ليخسرها على جبهة الدولة الفلسطينية؟ وهل الخطة الأميركية هي خطة لتوزيع كؤوس السّم على المتحاربين؟

نقلًا عن صحيفة الشرق الأوسط