مع نهاية كل سبتمبر، يترقب الأمريكيون والعالم ما إن كانت الحكومة الأمريكية ستدخل في إغلاق جزئي أو كلي، وهو سيناريو يتكرر كل عدة سنوات بسبب تعقيدات الموازنة والاختلافات السياسية بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي.
وبينما ترتبط الميزانية ارتباطًا وثيقًا بـ"السنة المالية" في الولايات المتحدة، فإن فشل الكونغرس في تمرير قانون الإنفاق يؤدي إلى عواقب تطال ملايين الموظفين الفيدراليين، وتعرقل خدمات عامة أساسية، وتؤثر على الاقتصاد الوطني والعالمي.
في هذا التقرير، نسلّط الضوء على مفهوم السنة المالية الأمريكية، وكيف تعمل عملية إقرار الميزانية، وما هو الإغلاق الحكومي، ولماذا يتكرر، وما تأثيره على الأمريكيين والاقتصاد العالمي.
السنة المالية (Fiscal Year) هي فترة محاسبية تستخدمها الحكومة الفيدرالية لتخطيط وإنفاق أموالها. في الولايات المتحدة، تبدأ السنة المالية من 1 أكتوبر وتنتهي في 30 سبتمبر من العام التالي.
تم اعتماد هذا التوقيت منذ عام 1976 بموجب قانون تعديل الميزانية، حيث تم تعديل بداية السنة المالية من 1 يوليو إلى 1 أكتوبر، لإعطاء الكونغرس وقتًا كافيًا لإعداد وتمرير ميزانية الدولة بعد نهاية السنة المالية السابقة.
تبدأ العملية من البيت الأبيض:
في شهر فبراير عادة، يقدم الرئيس الأمريكي اقتراح الميزانية للعام القادم، والذي يحتوي على رؤيته السياسية والاقتصادية.
يشمل الاقتراح تقديرات للإيرادات والنفقات، وخطط الإنفاق على الدفاع، التعليم، الرعاية الصحية، وغيرها.
دور الكونغرس:
يراجع مجلسا الشيوخ والنواب اقتراح الرئيس من خلال لجانهما المختصة، خصوصًا لجنة الاعتمادات.
يتم إعداد 12 مشروع قانون إنفاق منفصلة تغطي مختلف الوكالات الفيدرالية.
المصادقة النهائية:
يجب على الكونغرس التصويت والموافقة على مشاريع الإنفاق قبل 1 أكتوبر.
إذا لم يتم تمرير القوانين أو إقرار تمويل مؤقت، تدخل الحكومة في "إغلاق حكومي".
الإغلاق الحكومي (Government Shutdown) يحدث عندما يفشل الكونغرس والرئيس في التوصل إلى اتفاق حول الميزانية أو تمرير تمويل مؤقت، مما يؤدي إلى وقف عمل الوكالات الفيدرالية التي لا تُصنّف على أنها "ضرورية".
الوكالات "غير الضرورية" تشمل:
المتاحف الوطنية والمتنزهات.
بعض خدمات الهجرة والتأشيرات.
خدمات الضرائب (جزئيًا).
الوكالات التنظيمية مثل وكالة حماية البيئة.
غالبية برامج البحث العلمي والمشاريع الفيدرالية.
أما "الضرورية" فتشمل:
الجيش والشرطة الفيدرالية.
مراقبة الطيران.
الخدمات الطبية الطارئة.
العمليات الأمنية والاستخباراتية.
يؤثر الإغلاق على ملايين الأمريكيين، أبرزهم:
الموظفون الفيدراليون: يتم تسريح مئات الآلاف مؤقتًا دون راتب، أو يُطلب منهم العمل دون أجر إلى حين انتهاء الإغلاق.
المقاولون الفيدراليون: يخسرون عقودًا وفرص عمل، وغالبًا لا يحصلون على تعويض بعد الإغلاق.
الأسر: تتأخر المدفوعات لبعض البرامج الاجتماعية، كالإعانات الغذائية أو الإسكان.
الاقتصاد: يتكبد خسائر بمليارات الدولارات يوميًا بسبب تأخير الإنفاق الحكومي وانخفاض الإنتاجية.
الإغلاق هو نتيجة مباشرة للصراع السياسي، خاصةً عندما تنقسم السيطرة على الكونغرس بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي.
الجمهوريون عادة ما يطالبون بخفض الإنفاق، خصوصًا على برامج مثل "أوباما كير" أو برامج الرفاه.
الديمقراطيون يركزون على الحفاظ على الخدمات الاجتماعية والبيئية وزيادة الضرائب على الأغنياء لتمويل البرامج.
في أحيان كثيرة، يستخدم أحد الطرفين الإغلاق كأداة ضغط سياسية لفرض أجندته.
إغلاق 1995–1996:
استمر 21 يومًا في عهد الرئيس بيل كلينتون بسبب خلافات حول خفض العجز وضرائب الرعاية الصحية.
إغلاق 2013:
استمر 16 يومًا خلال رئاسة أوباما، بسبب مطالبة الجمهوريين بإلغاء قانون "أوباما كير".
الإغلاق الأطول في التاريخ (2018–2019):
استمر 35 يومًا في عهد دونالد ترامب، بسبب الخلاف حول تمويل الجدار الحدودي مع المكسيك.
هناك طريقتان:
تمرير قانون تمويل مؤقت (Continuing Resolution):
يمنح الحكومة تمويلاً مؤقتًا بنفس مستويات الإنفاق السابقة، مما يمنح الكونغرس مزيدًا من الوقت للتفاوض.
تمرير ميزانية كاملة:
يتم الاتفاق على قانون إنفاق كامل للسنة المالية، ما ينهي الأزمة تمامًا.
على الاقتصاد الأمريكي:
الإغلاقات تؤدي إلى تباطؤ في النمو الاقتصادي.
تُكبِّد الحكومة خسائر فادحة بسبب تأجيل العقود والبرامج.
تضر بثقة المستثمرين والأسواق المالية.
على الأسواق العالمية:
الولايات المتحدة تمثل أكبر اقتصاد عالمي، وأي اضطراب في إدارتها المالية ينعكس على الأسواق والبنوك المركزية حول العالم.
على التصنيف الائتماني:
في بعض الأحيان، هددت وكالات التصنيف العالمية مثل "موديز" و"ستاندرد آند بورز" بتخفيض تصنيف الولايات المتحدة الائتماني بسبب تكرار هذه الأزمات.
رغم تعدد المقترحات، تبقى الأزمة سياسية أكثر من كونها فنية. ومن أبرز المقترحات:
إصلاح نظام الموازنة ليصبح أكثر استقرارًا.
اعتماد آليات تمويل تلقائي في حال الفشل في إقرار الميزانية.
الحد من استخدام الإغلاق كأداة سياسية.
لكن كل هذه الحلول تواجه عقبات بسبب انقسام الكونغرس واختلاف الأولويات بين الحزبين.
رغم أنها تمثل خللًا في عمل النظام السياسي، إلا أن تكرار الإغلاقات جعلها جزءًا معتادًا من المشهد الأمريكي، تعكس التوتر المتزايد في الحياة السياسية الأمريكية. ويبقى المواطن الأمريكي هو المتضرر الأكبر، وسط غياب التوافق، واستمرار التجاذب بين البيت الأبيض والكونغرس.
في نهاية المطاف، تطرح كل إغلاق حكومي سؤالًا جوهريًا: هل يمكن للديمقراطية الأقوى في العالم أن تُدير نفسها دون أن تتوقف كل عام عن العمل؟ يبدو أن الجواب لا يزال معلقًا بين قاعة الكونغرس ومكتب الرئيس.