آراء وأقلام

د. عبد الحق عزوزي يكتب: الدولة الفلسطينية ما بعد «إعلان نيويورك»

الأحد 28 سبتمبر 2025 - 08:14 ص
د. عبد الحق عزوزي
د. عبد الحق عزوزي

مهما يمكن أن يُقال عن دور الأمم المتحدة المحتشم، بل المنعدم، في حل النزاعات الدولية؛ فإن هاته المنظمة موجودة ولها شرعية دولية، ويهرع إليها الملوك والرؤساء والوزراء والسفراء لتمثيل بلدانهم، وإيصال الرسائل، والحديث عن الموضوعات الملتهبة عبر العالم، والمشاركة في الاجتماعات الأممية، والأخرى التي يمكن أن تُعقد على الهامش... بل حتى الرئيس الأميركي السيد دونالد ترمب المنزعج من ضعف المؤسسة الأممية وعدم كفاءتها يحج إليها هو وزوجته، لإلقاء خطاب في الجمعية العامة في إطار ما يُسمّى «أسبوع القادة»؛ لأنه يعي، رغم «عملية تخريب ثلاثية» يقول إنها استهدفته في مقر الأمم المتحدة، أن هاته المنظمة هي الوحيدة التي تمثّل دول العالم، ومن داخلها يمكن أن يقرأ لائحة اتهاماته ضد المنظمة الدولية، ويشكّك في المخاطر المناخية، ويهاجم الهجرة، وينتقد السياسات الأوروبية في هذا المجال.

هل يمكن إصلاح الأمم المتحدة؟ الجواب لا. فالدول الخمس الكبرى تتوفر على حق النقض «الفيتو» الذي يمكن أن تستعمله حسب مصالحها، وحسب معاييرها الاستراتيجية الخاصة بها، بل حسب مزاجها الخاص.

إصلاح الأمم المتحدة هو شيء ضروري، ولكن يبقى رهيناً برغبة أعضائها الخمسة الدائمين، خصوصاً الدول الثلاث الكبرى: الولايات المتحدة الأميركية، وروسيا، والصين، فهاته الدول مجتمعة ستظل الركائز الأساسية لأي رغبة في الإصلاح. الحكامة الدولية صعبة الممارسة والتطبيق، ولكن تطويرها أمر لا مفر منه، والأمم المتحدة رغم ما يمكن أن يُكتب أو يُقال هي المكان الوحيد لتفعيل هاته الحكامة الدولية، وإيجاد البدائل عندما يكون مجلس الأمن مصاباً بالشلل التام بسبب فيتو أحد الأعضاء... أقول هذا الكلام لنفهم قيمة الحراك الدبلوماسي «السعودي-الفرنسي» الذي عُقد في قلب المنظمة الدولية بالقرب من أوردة مجلس الأمن الضيقة، وفي مكان يمثّل 196 بلداً. «إعلان نيويورك» وسّع من قائمة الدول المعترفة بالدولة الفلسطينية؛ ليس فقط لأن عددها عشر دول جديدة، ولكن لأنه كان يُنظر إلى معظمها أنها من أكبر الدول المساندة تاريخياً لإسرائيل، ثم إن قمة الاعتراف بدولة فلسطين وحل الدولتين مكّنت من جمع 142 دولة، وهو عدد غير مسبوق في مثل هذا النوع من اللقاءات.

ومثل هذا الاجتماع، وما تبعه من لقاءات جمعت الرئيس ترمب بنظيره الفرنسي وأخرى مع دول عربية إلى جانب تركيا وإندونيسيا وباكستان؛ لهي مؤشر يُحسب لصالح المنظمة الأممية ومحركي هذا الحراك الأممي، وعلى رأسهم السعودية وفرنسا؛ لأنه دون «إعلان نيويورك» ما نُوقشت الحلول حول سبل وقف إطلاق النار وإيجاد حل ينهي الأزمة الراهنة، ووضع خريطة طريق تَعِد بالوصول إلى حل. كما أنه مكّن العرب المشاركين في اللقاءات رفيعة المستوى من سماع تعهد من الرئيس الأميركي بأنه لن يسمح لإسرائيل بضم الضفة الغربية.

هذا النجاح الدبلوماسي الأممي لصالح حل الدولتَيْن، يجب أن تتبعه حكمة استراتيجية من داخل فلسطين، خصوصاً من حركة «حماس» بعد الحرب الضروس التي اقتربت من إكمال عامها الثاني. فلا بد أن تسلّم الرهائن إلى السلطة الوطنية الفلسطينية، وتسلّم مسؤولية تسيير قطاع غزة لها، وبذلك تكون قد قررت وقف العمل المسلح تماشياً مع هذا الاعتراف الدولي، وتمهيداً لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية، ضمن حدود الرابع من يونيو (حزيران) 1967.

المرحلة صعبة جداً ومعقّدة إقليمياً ودولياً؛ ومثل هاته الفرصة قد لا تتكرر إطلاقاً. قد يقول قائل إن إسرائيل لا ترضخ إلا تحت الضغط، وبالضبط تحت الضغط الأميركي. ولكن المؤشرات التي تأتينا من اجتماع الرئيس ترمب بالقادة العرب تُوحي بأن الضغط الرمزي يمكن أن يتحول إلى حقيقة. الرئيس الأميركي يغيّر مواقفه بسرعة، وأظن أن اللوبي اليهودي في أميركا يشتغل لصرفه عن هاته المواقف الجديدة، ولكن إذا استطعنا الحفاظ على نجاح هذا الحراك الأممي الدبلوماسي لصالح حل الدولتين، وإذا قامت حركة «حماس» بمراجعة آيديولوجية كما أسلفت، فقد تنجح خريطة الطريق هاته. علماً بأننا دخلنا في نظام عالمي مطبوع بالتوجس والغموض والمجهول، والأمور تتغير بسرعة، ولا يمكن لفلسطين أن تنشأ بغياب الحكمة الاستراتيجية لدى مكوناتها ولا بالارتجالية، ولا بالتشرذم والهوان، ولا بعدم الإسهام في إنجاح «إعلان نيويورك».

إنها فرصة تاريخية، ويجب أن تشكّل حافزاً لكل الفصائل الفلسطينية، لتترك مشكلاتها جانباً وتستفيد من المكسب الدولي الجديد قبل فوات الأوان. ففي الدول الغربية انتخابات رئاسية وتشريعية مقبلة، وما يقوم به الرئيس الفرنسي من تزويد البطارية الأممية من طاقة في سبيل خلق الدولتَيْن ليس محط إجماع لدى بعض الأحزاب في بلده، والكلام نفسه يُقال عن بريطانيا. ويبقى ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي اليوم وليس غداً مفتاح الخلاص.

نقلًا عن صحيفة الشرق الأوسط