شهدت بريطانيا على مدار الأسبوع زيارة وُصفت بالتاريخية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حملت معها مزيجًا من المراسم الملكية الفاخرة، والاتفاقيات الاقتصادية الضخمة، إلى جانب خلافات سياسية بارزة بين واشنطن ولندن حول ملفات حساسة في مقدمتها الاعتراف بدولة فلسطين، وأزمة الهجرة عبر القنال الإنجليزي، والتعامل مع الحرب في أوكرانيا.
وفي مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر بمقر رئاسة الحكومة الريفي "تشيكرز"، أعلن ترامب وستارمر عن توقيع اتفاق استثماري تاريخي بلغت قيمته 250 مليار جنيه إسترليني، اعتُبر الأضخم في تاريخ العلاقات الاقتصادية بين البلدين.
الاتفاق يشمل استثمارات أمريكية بقيمة 150 مليار جنيه إسترليني من خلال شركات كبرى مثل "بلاكستون" و"بالانتير"، إضافة إلى ضخ 100 مليار جنيه إسترليني من الاستثمارات البريطانية داخل السوق الأمريكية.
ووفقًا لتصريحات ستارمر، فإن هذه الخطوة ستوفر نحو 15 ألف وظيفة جديدة، وتفتح آفاقًا أوسع للتعاون في مجالات التكنولوجيا المتطورة والذكاء الاصطناعي والطاقة.
وأكد ترامب أن هذه الشراكة الاستثمارية "تؤسس لمرحلة جديدة من التعاون الاستراتيجي" بين الحليفين التقليديين، مشيرًا إلى أن "بريطانيا ستظل الشريك الأقرب والأكثر موثوقية للولايات المتحدة".
ورغم الأجواء الاحتفالية، لم تخلُ الزيارة من توترات سياسية. فقد أعلن ترامب صراحةً اعتراضه على موقف حكومة لندن الداعم للاعتراف بدولة فلسطين، موضحًا أنه "يختلف مع ستارمر في هذا الشأن".
وفي المقابل، تمسك رئيس الوزراء البريطاني بموقفه، مؤكدًا أن "الاعتراف بدولة فلسطين لم يعد خيارًا رمزيًا، بل ضرورة لإنهاء الوضع غير المحتمل في غزة، والمضي نحو حل عادل ودائم للصراع".
هذا التباين يعكس استمرار الخلاف بين واشنطن وبعض العواصم الأوروبية بشأن كيفية التعامل مع الملف الفلسطيني، خاصة في ظل التصعيد المستمر في غزة والتوتر المتزايد في الشرق الأوسط.
ملف آخر أثار جدلًا كبيرًا خلال المحادثات تمثل في أزمة الهجرة غير الشرعية عبر القنال الإنجليزي. فقد دعا ترامب بريطانيا إلى "استدعاء الجيش لإنهاء أزمة القوارب الصغيرة"، محذرًا من أن استمرارها "يهدد الدول من الداخل ويقوض استقرارها".
وانتقد الرئيس الأمريكي الاتفاق الأخير مع فرنسا، الذي أسفر عن إعادة مهاجر واحد فقط خلال 43 يومًا، في وقت وصل فيه أكثر من 30 ألف مهاجر إلى بريطانيا منذ بداية العام.
أما ستارمر، فشدد على أن حكومته تعمل على "تطوير حلول عملية أكثر إنسانية وفعالية" لمعالجة الأزمة، بالتعاون مع دول الاتحاد الأوروبي.
على الصعيد الدولي، حملت تصريحات ترامب مفاجأة عندما أعلن عن "خيبة أمله" من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، مؤكدًا أنه كان ينتظر من موسكو تحركًا جادًا نحو إنهاء الحرب في أوكرانيا.
ودعا ترامب بريطانيا إلى تعزيز استثماراتها في مجال الطاقة، ولا سيما تطوير موارد النفط والغاز في بحر الشمال، لتقليل الاعتماد على الواردات الروسية.
أما ستارمر، فقد شدد على التزام لندن بالتحالف الوثيق مع واشنطن في مواجهة التحديات الروسية، قائلًا: "نعمل مع الولايات المتحدة من أجل إنهاء الحرب عبر زيادة الضغط على موسكو، والحفاظ على وحدة الموقف الغربي".
لم تقتصر الزيارة على السياسة والاقتصاد، بل تخللتها مراسم احتفالية غير مسبوقة، أبرزها الاستعراض العسكري المهيب في قلعة وندسور، حيث استقبل الملك تشارلز الثالث الرئيس الأمريكي وزوجته ميلانيا وسط أجواء ملكية فخمة.
وخلال حفل العشاء الرسمي، أثنى ترامب على "الروابط التاريخية بين الشعبين الأمريكي والبريطاني"، مؤكدًا أن العلاقات بين البلدين "أقوى من أي وقت مضى".
وكشفت صحيفة "ديلي تلغراف" أن ترامب يخطط لتوجيه دعوة رسمية للملك تشارلز لزيارة الولايات المتحدة قريبًا، بعدما عبّر عن إعجابه الشديد بالحفاوة الملكية التي حظي بها في لندن.
المحللون السياسيون وصفوا الزيارة بأنها "الأكثر إثارة منذ عقود" في العلاقات الأمريكية البريطانية، إذ جمعت بين استعراض القوة الاقتصادية، وتبادل المواقف الصريحة بشأن القضايا الخلافية، إلى جانب المظاهر الاحتفالية التي عكست عمق العلاقات بين البلدين.
ويشير مراقبون إلى أن الاتفاق الاستثماري الضخم قد يشكل ركيزة جديدة لتعزيز "الشراكة عبر الأطلسي"، بينما تظل الملفات الخلافية، خصوصًا قضية فلسطين وأزمة الهجرة، بمثابة "اختبار حقيقي" لمدى قدرة الجانبين على تجاوز التباينات.
وأنهى ترامب زيارته إلى بريطانيا وهو يحمل في جعبته صفقات اقتصادية كبرى وصورًا ملكية لافتة، لكن الخلافات التي برزت خلال لقاءاته مع ستارمر أكدت أن التحالف التاريخي بين واشنطن ولندن، رغم متانته، لا يخلو من تحديات عميقة.
ففي وقت يسعى فيه الطرفان إلى توسيع شراكتهما الاقتصادية والتكنولوجية، تظل القضايا السياسية الساخنة ـ من فلسطين إلى أوكرانيا والهجرة ـ بمثابة ملفات شائكة قد تحدد ملامح المرحلة المقبلة في العلاقات بين القوتين الحليفتين.