في تطور لافت يعكس تعقيدات المشهد السياسي في الشرق الأوسط وتضارب المصالح الدولية، التقى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مساء الجمعة، برئيس الوزراء القطري ووزير الخارجية الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، في عشاء خاص أقيم بمدينة نيويورك، بحضور عدد من كبار المسؤولين الأمريكيين والقطريين، وذلك بعد أيام فقط من الضربة الإسرائيلية المثيرة للجدل التي استهدفت قيادات من حركة "حماس" في العاصمة القطرية الدوحة.
العشاء، الذي وصفه مسؤولون قطريون بأنه كان "ودياً واستراتيجياً"، جاء عقب اجتماع رسمي منفصل عقده رئيس الوزراء القطري مع نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس، ووزير الخارجية ماركو روبيو، داخل البيت الأبيض، لمناقشة التطورات الأخيرة في قطاع غزة، ومستقبل الوساطة القطرية، والدور المتغير للولايات المتحدة في المنطقة.
وكتب حمد المفتاح، نائب رئيس البعثة القطرية لدى الأمم المتحدة، عبر منصة "إكس" (تويتر سابقًا): "عشاء رائع مع رئيس الولايات المتحدة."، في إشارة إلى اللقاء الذي أكد البيت الأبيض انعقاده، دون الإفصاح عن تفاصيله. وبحسب مصادر مطلعة، استمر العشاء لأكثر من ساعتين، ودار خلاله نقاش موسع حول التصعيد الإسرائيلي الأخير، والتوترات الإقليمية المتصاعدة، ومستقبل مسار السلام.
وفق مصدر دبلوماسي أمريكي تحدث ، عبّر ترامب عن استيائه من الغارة الإسرائيلية التي استهدفت قادة سياسيين في حماس على الأراضي القطرية، واصفاً العملية بأنها "خطوة أحادية الجانب تعرقل الجهود الدبلوماسية وتضر بالمصالح الأمريكية والإسرائيلية على حد سواء".
وأضاف المصدر أن ترامب اعتبر الضربة "خرقاً غير مبرر للأعراف الدبلوماسية"، مشيراً إلى أنها جاءت في توقيت بالغ الحساسية، خاصة في ظل محاولات أمريكية متواصلة لإحياء المحادثات بشأن هدنة دائمة في قطاع غزة، وتثبيت استقرار إقليمي هش.
وكانت إسرائيل قد شنت، الثلاثاء الماضي، غارة استخباراتية دقيقة على مبنى سكني في أحد أحياء الدوحة، استهدفت فيه ثلاثة من أبرز قادة حماس المقيمين في قطر منذ سنوات.
وأسفرت العملية، بحسب وسائل إعلام غربية، عن مقتل أحد القادة وإصابة اثنين آخرين، وهو ما اعتُبر تطوراً نوعياً ينقل ساحة الاشتباك من غزة إلى قلب الخليج العربي.
من جانبه، حمّل الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، خلال لقائه مع ترامب، إسرائيل مسؤولية "نسف الجهود الرامية إلى تحقيق سلام دائم"، مؤكداً أن "استهداف وسطاء الحوار سيزيد الوضع تعقيداً، ويضعف الثقة الإقليمية والدولية في جهود الوساطة".
وقال رئيس الوزراء القطري إن بلاده "لن تتراجع عن التزامها الإنساني والسياسي تجاه الشعب الفلسطيني"، مشيراً إلى أن قطر ستواصل دورها كوسيط نزيه ومحايد، رغم ما وصفه بـ"الاستفزازات الإسرائيلية المتكررة، ومحاولات الضغط على شركاء السلام في المنطقة".
وتلعب الدوحة دوراً محورياً في الوساطة بين حماس وإسرائيل منذ اندلاع الحرب في غزة، إذ نجحت في عدة مراحل من التفاوض في ضمان فترات تهدئة مؤقتة، وتبادل رهائن، وإيصال مساعدات إنسانية إلى القطاع المحاصر، بالتنسيق مع مصر والأمم المتحدة.
وفي تطور لاحق مساء الجمعة، أجرى ترامب اتصالاً هاتفياً مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ناقش خلاله تبعات الغارة الأخيرة.
وبحسب بيان مسرّب من مكتب ترامب، نقل الرئيس الأمريكي "استياءه من توقيت العملية وعدم تنسيقها مع الحلفاء"، مشدداً على ضرورة "احترام قواعد الاشتباك السياسي في الفضاء الدبلوماسي".
وأشار البيان إلى أن ترامب طمأن الجانب القطري خلال لقائه في نيويورك بأن "مثل هذه العمليات لن تتكرر"، دون أن يوضح ما إذا كان ذلك موقفاً رسمياً أو تعبيراً عن رأي شخصي في ضوء ابتعاده عن دوائر القرار منذ انتهاء ولايته.
الغارة الإسرائيلية على الدوحة أثارت عاصفة من الانتقادات الدولية، إذ عبّرت كل من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وتركيا عن قلقها من "توسيع رقعة الصراع خارج حدود غزة"، محذّرة من أن "تحول الأراضي الدبلوماسية إلى ساحات صراع سيقوّض فرص أي سلام مستقبلي".
وفي السياق نفسه، أدانت الجامعة العربية، في بيان رسمي، ما وصفته بـ"العدوان الإسرائيلي على دولة عربية ذات سيادة"، مطالبة بفتح تحقيق دولي مستقل، والكشف عن دوافع وتفاصيل العملية التي اعتبرتها "سابقة خطيرة في تاريخ النزاعات الإقليمية".
تأتي هذه التطورات في وقت حساس تمر به المنطقة، حيث لا تزال غزة تحت نيران التصعيد الإسرائيلي منذ أكثر من 20 شهراً، وسط فشل متكرر في تثبيت وقف دائم لإطلاق النار.
وبينما تتهم إسرائيل قطر بدعم حماس وتمويل بنيتها السياسية، تنفي الدوحة تلك الاتهامات، مؤكدة أن دورها يقتصر على "الوساطة الإنسانية والديبلوماسية لإنهاء النزاع".
ويقول مراقبون إن الضربة الإسرائيلية تمثل تحدياً مباشراً للمساعي الأمريكية لإعادة ضبط التحالفات في الشرق الأوسط، خصوصاً بعد التوترات التي شهدتها العلاقة بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو. ويضيف هؤلاء أن استهداف قادة حماس في قطر قد يُفقد واشنطن أحد أهم أوراقها في مفاوضات وقف إطلاق النار، نظراً إلى الثقة التي تتمتع بها الدوحة لدى مختلف الأطراف.
يرى محللون أن موقف ترامب المتضامن جزئياً مع قطر يعكس تحولا في المزاج السياسي الأمريكي، لا سيما في أوساط الجمهوريين، الذين باتوا ينظرون إلى استمرار الحرب في غزة باعتباره عبئاً سياسياً وأمنياً على واشنطن، خاصة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية المقبلة في 2026.
كما يشير آخرون إلى أن اللقاء بين ترامب ورئيس الوزراء القطري قد يكون محاولة لإعادة التموضع السياسي على المسرح الدولي، واستعادة نفوذ أمريكي خسر الكثير من زخمه في السنوات الأخيرة، لا سيما في ظل النفوذ المتزايد لكل من الصين وروسيا في الشرق الأوسط.
في ظل هذه الأجواء المشحونة، تبدو فرص السلام في المنطقة أكثر هشاشة من أي وقت مضى. فبينما تسعى قطر إلى الحفاظ على دورها كوسيط فاعل في أزمة غزة، وتناور الولايات المتحدة بين حلفائها، تمضي إسرائيل في تنفيذ استراتيجيتها الأمنية دون تنسيق يُذكر مع شركائها، ما يفتح الباب أمام مزيد من التوترات وربما التصعيد المفتوح.
ما جرى في نيويورك بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء القطري لا يمكن قراءته بمعزل عن التحولات الكبرى في النظام الإقليمي والدولي. فعندما يُعبّر ترامب، المعروف بدعمه التاريخي لإسرائيل، عن "استياءه" من غارة نفّذتها تل أبيب، فإن ذلك يُعد مؤشرًا واضحًا على تآكل الإجماع التقليدي داخل واشنطن حول السياسات الإسرائيلية.
من جهة أخرى، تثبت قطر مجددًا قدرتها على الصمود في وجه الضغوط، والإصرار على لعب دور الوسيط، حتى عندما تصبح هي نفسها ساحةً للصراع.
وهذا يضع الخليج العربي أمام مشهد معقد: بين وساطة تبحث عن سلام، وحرب تُنقل تدريجيًا من غزة إلى العواصم.
في المحصلة، قد تكون هذه اللحظة بداية تشكّل معادلة جديدة في الشرق الأوسط، تقوم على إعادة فرز الحلفاء، وتحجيم نفوذ اللاعبين المتفردين.
وفي حال استمرت تل أبيب في تصرفاتها الأحادية، فإن واشنطن، سواء في عهد ترامب أو غيره، قد تجد نفسها مضطرة لإعادة النظر في حدود دعمها غير المشروط.