في خطوة وُصفت بأنها الأهم في مسار الإصلاح النقدي منذ أكثر من عقد، تستعد الحكومة السورية لإصدار أوراق نقدية جديدة من الليرة بحلول أكتوبر/تشرين الأول المقبل، مع خطة لحذف صفرين من العملة المتداولة.
الإجراء الذي لم يُعلن رسميًا بعد، كشفته مصادر مصرفية واقتصادية لوكالة "رويترز"، وأكدت أن الهدف منه تبسيط المعاملات المالية، وضبط التداول النقدي، واستعادة قدر من الثقة بالعملة المحلية التي فقدت أكثر من 99% من قيمتها خلال 14 عامًا من الحرب والصراع الداخلي.
وبحسب تعميم صادر عن مصرف سوريا المركزي منتصف أغسطس/آب الجاري، طُلب من البنوك التجارية الاستعداد للتعامل مع الأوراق الجديدة التي ستدخل التداول في منتصف أكتوبر، مع فترة انتقالية تستمر حتى ديسمبر/كانون الأول 2026، حيث سيسمح خلالها باستخدام العملة القديمة والجديدة بشكل متوازي.
ووفق الوثائق، فإن العملة الجديدة ستُطبع في روسيا عبر شركة "جوزناك" الحكومية، الشريك التاريخي لدمشق في طباعة النقود.
وطالب المصرف المركزي البنوك بتقديم تقارير مفصلة حول التجهيزات التقنية لديها، بما في ذلك الكاميرات وماكينات عدّ النقود وسعة التخزين، إضافة إلى إجراء اختبارات تقنية تضمن قدرة الأنظمة على التعامل مع الفئات الجديدة.
إعادة تقييم العملة أو ما يُعرف بـ "حذف الأصفار" يعني إزالة رقمين من كل فئة نقدية. فعلى سبيل المثال، الورقة النقدية الحالية من فئة 5000 ليرة ستصبح 50 ليرة جديدة، بينما تتحول فئة 10000 –في حال إصدارها– إلى 100 ليرة جديدة.
لكن هذا الإجراء لا يغير من القيمة الحقيقية أو القوة الشرائية للعملة، إذ يبقى سعر الصرف مرتبطًا بعوامل العرض والطلب في السوق، والسياسات الاقتصادية العامة، وحجم الاحتياطيات الأجنبية. بمعنى آخر: المواطن الذي يملك اليوم 50 ألف ليرة (ما يعادل نحو 5 دولارات وفق السوق الموازي) سيملك بعد الحذف 500 ليرة جديدة بنفس القيمة الفعلية.
الليرة السورية كانت تساوي نحو 50 ليرة مقابل الدولار قبل اندلاع الحرب عام 2011. لكن على مدار 14 عامًا من الصراع والعقوبات والانهيار الاقتصادي، فقدت أكثر من 99% من قيمتها، لتصل اليوم إلى نحو 10 آلاف ليرة مقابل الدولار، بحسب متوسط أسعار الصرف غير الرسمية.
هذا الانهيار انعكس مباشرة على حياة السوريين اليومية. فشراء حاجيات أسبوعية من البقالة يتطلب حمل أكياس ممتلئة بالأوراق النقدية، خصوصًا من فئة 5000 ليرة التي تُعد الأكبر حاليًا. وهو مشهد اعتبره خبراء أحد دوافع الحكومة للتفكير بحذف الأصفار وتسهيل التعامل النقدي.
المصادر المصرفية والاقتصادية أشارت إلى عدة فوائد مباشرة لهذه الخطوة، من بينها:
تبسيط العمليات الحسابية سواء في التسعير أو المحاسبة أو التحويلات المالية.
تسهيل حياة المواطنين عبر تقليل عدد الأوراق النقدية المتداولة.
إعطاء دفعة نفسية لاستعادة الثقة بالعملة الوطنية.
تسهيل المحاسبة البنكية والفواتير وتقليل الأخطاء الحسابية.
منح فرصة لإعادة ضبط النظام النقدي وتعزيز الرقابة الحكومية على السيولة.
وترتبط هذه الخطوة أيضًا بالتحول السياسي الذي شهدته البلاد في ديسمبر/كانون الأول الماضي، مع الإطاحة بالرئيس السابق بشار الأسد، إيذانًا بنهاية أكثر من خمسة عقود من حكم عائلة الأسد.
ورأى محللون أن حذف الأصفار من العملة لا يقتصر على كونه قرارًا اقتصاديًا فحسب، بل يحمل دلالات رمزية واضحة، خصوصًا أن الأوراق النقدية الحالية تحمل صور بشار الأسد ووالده حافظ الأسد. وقال الخبير الاقتصادي السوري كرم شعار، المستشار لدى الأمم المتحدة: "تغيير شكل العملة وإزالة رموز الحكم السابق خطوة سياسية بامتياز، توازي في رمزيتها أي إصلاح اقتصادي".
ورغم الطموحات الكبيرة، يحذر اقتصاديون من أن الإجراء قد يربك المواطنين، خصوصًا كبار السن، وقد يتسبب في فوضى سعرية إذا لم ترافقه خطة توعية شاملة وإطار تنظيمي واضح.
كما أن إعادة تقييم العملة عملية مكلفة للغاية، إذ قد تصل تكاليف الطباعة والتوزيع والتبديل إلى مئات الملايين من الدولارات، في وقت تعاني فيه البلاد من أزمة سيولة حادة، وضعف في البنية التحتية للمدفوعات الرقمية، واعتماد مفرط على الدولار في التداول اليومي.
ويخشى آخرون من أن الإصلاح قد لا يعالج جوهر الأزمة، المتمثل في ضعف الإنتاج، وغياب الاستقرار السياسي، واستمرار العقوبات الدولية، وهي عوامل تظل أكثر تأثيرًا على قيمة الليرة من مجرد حذف الأصفار.
وبعض الخبراء، ومن بينهم كرم شعار، يرون أن إصدار فئات نقدية أكبر مثل 20 ألف أو 50 ألف ليرة كان قد يحقق الهدف نفسه في تسهيل المعاملات النقدية، دون الدخول في عملية مكلفة ومعقدة كإعادة تقييم العملة بالكامل.
لكن الحكومة الجديدة في دمشق تبدو مصممة على المضي قدمًا، معتبرة أن الإصلاح النقدي خطوة رمزية ضرورية لإطلاق مرحلة اقتصادية جديدة بعد طي صفحة الحرب والحكم السابق.
من المتوقع أن يطلق المصرف المركزي حملة إعلامية موسعة في الأسابيع المقبلة لشرح تفاصيل الإصلاح وآلية التعامل مع العملة الجديدة، وذلك قبل بدء التداول الرسمي في ديسمبر/كانون الأول، تزامنًا مع الذكرى الأولى لسقوط نظام الأسد.
وتشير تقديرات غير رسمية إلى أن نحو 40 تريليون ليرة سورية متداولة خارج النظام المالي الرسمي، ما يعقد مهمة المصرف المركزي في استعادة السيطرة الكاملة على السيولة.
ويرى مصرفيون أن إصدار أوراق جديدة سيساعد على إدخال جزء من هذه الكتلة النقدية إلى النظام المصرفي، وهو ما يتيح للحكومة مراقبة أفضل لحركة الأموال.
يبقى السؤال ما إذا كانت إعادة تقييم الليرة بحاجة إلى غطاء تشريعي من البرلمان. هذا الأمر قد يتضح خلال الانتخابات التشريعية المقررة في سبتمبر/أيلول المقبل، والتي ستكون الأولى بعد التغيير السياسي. ويرى مراقبون أن إقرار البرلمان للقرار سيمنحه شرعية إضافية، ويسهل تنفيذه على المستوى الشعبي.
وفي النهاية، يبدو أن سوريا تقف أمام مفترق طرق اقتصادي جديد. فبينما يرى البعض في حذف صفرين من الليرة فرصة لإعادة بناء الثقة بالنظام النقدي، يعتبره آخرون مجرد تغيير شكلي لا يعالج جذور الأزمة.
لكن المؤكد أن القرار، سواء نجح أو فشل، سيشكل محطة مفصلية في تاريخ العملة السورية التي عانت من أسوأ انهيار في تاريخها الحديث.
ومع اقتراب موعد التطبيق، يترقب المواطن السوري تفاصيل أوضح حول مستقبل جيبه اليومي، وهل ستخفف الخطوة بالفعل من أعباء التضخم والمعاملات الثقيلة، أم أنها ستكون مجرد أصفار محذوفة على الورق دون أثر ملموس في الأسواق.