دراسات وأبحاث

سوريا بين اللامركزية والفيدرالية.. تحديات الوحدة الوطنية وخيارات الحكم الذاتي

الجمعة 22 أغسطس 2025 - 02:10 ص
جهاد جميل
سوريا
سوريا

تشهد سوريا في السنوات الأخيرة تصاعدًا في النقاش حول مستقبل شكل الدولة بعد عقود من الحكم المركزي المطلق، وسط مطالب متزايدة من بعض المكونات العرقية والدينية باتباع نموذج فيدرالي أو نظام لامركزي لإدارة الشؤون المحلية. 

الأزمة الحالية تأتي في سياق طويل من التنوع الاجتماعي، والصراعات الداخلية، والتدخلات الإقليمية، ما يجعل الملف السوري معقدًا للغاية ومرتبطًا بجذور تاريخية عميقة.

فكرة الفيدرالية في سوريا جديدة

تاريخيًا، لم تكن فكرة الفيدرالية في سوريا جديدة، بل عادت جذورها إلى فترة الانتداب الفرنسي في عشرينيات القرن الماضي، حيث قامت فرنسا بتقسيم البلاد إلى دويلات على أساس طائفي وإثني، مثل دولة العلويين ودولة الدروز، في محاولة لتفتيت السلطة والسيطرة على المنطقة وفق سياسة "فرق تسد". بعد الاستقلال، استعادت الدولة السورية مركزيتها بشكل كامل، محافظة على قبضة أمنية مشددة على جميع المناطق، الأمر الذي زاد من شعور بعض المكونات بالغبن والمظلومية، وكان أحد العوامل التي أدت إلى اندلاع الثورة السورية عام 2011.

مع بداية الحرب الأهلية، ظهرت مطالب واضحة من بعض الجماعات، خاصة الكردية، لتبني نظام لا مركزي أو فيدرالي كوسيلة لتوزيع السلطة بشكل عادل وتوفير حماية للمكونات المختلفة. وقد أسهمت النزاعات المسلحة، وتدخل القوى الإقليمية، والهجمات على المدن المختلفة في تفاقم الأزمة، ما جعل الحلول التقليدية للنظام المركزي غير كافية لضمان الأمن والاستقرار.

بعد الإطاحة بنظام بشار الأسد في ديسمبر 2024، عاد النقاش حول الفيدرالية إلى الواجهة، مدفوعًا بالانقسامات المجتمعية، والأزمات الأمنية المتزايدة، وأحداث السويداء والساحل السوري، التي أسهمت في زيادة المخاوف بين الأقليات من انتهاكات محتملة وموجات انتقامية قد تعصف بالاستقرار. هذه الأحداث أثبتت أيضًا محدودية قدرة الحكومة المركزية الجديدة على فرض سيطرتها على المجموعات المسلحة التي شاركت في الثورة.

في محافظة السويداء، ذات الأغلبية الدرزية، شهدت الأشهر الماضية اشتباكات دموية بين السكان المحليين وقوات النظام، إلى جانب عمليات سلب ونهب واسعة، بينما دفعت التهديدات الخارجية، والهجمات الإسرائيلية، إلى تعزيز المطالب بالحكم الذاتي والحماية المحلية. وفي مناطق شمال شرق سوريا مثل الحسكة والرقة، تبنت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) نموذج الإدارة الذاتية، ما جعل تجربة اللامركزية نموذجًا عمليًا يمكن أن يُحتذى به في مناطق أخرى.

في أغسطس 2025، عقد مؤتمر الحسكة بمشاركة قادة محليين من مختلف المكونات، بما في ذلك القيادات الدرزية والعلوية والعربية، لمناقشة مستقبل سوريا على أساس اللامركزية الإدارية. وقد دعا المؤتمر إلى منح المناطق صلاحيات أكبر في إدارة شؤونها اليومية، مع الحفاظ على وحدة الدولة السورية ككيان موحد. وأكد البيان الختامي على ضرورة اعتماد نموذج الإدارة الذاتية لضمان مشاركة عادلة لجميع المكونات، وانتقد تركيز السلطة في العاصمة دمشق وفق مسودة الدستور المؤقت التي أعدها الرئيس الجديد أحمد الشرع.

رد فعل حكومة دمشق كان حادًا، حيث اعتبرت المؤتمر انتهاكًا للاتفاقيات السابقة وتهديدًا لوحدة البلاد الوطنية، مؤكدين على التمسك بالنظام المركزي القوي، وهددوا باستخدام القوة للتعامل مع أي محاولة للفيدرالية أو التقسيم.

 وفي المقابل، يرى محللون أن الفيدرالية قد تكون الحل الأقل سوءًا لتجنب انزلاق البلاد إلى حرب أهلية طاحنة، وأن الإدارة الذاتية يمكن أن تحقق استقرارًا نسبيًا إذا ما تم تنفيذها بحذر مع مراعاة التوازنات المحلية والدولية.

كما أن الدعم الدولي يلعب دورًا محوريًا في هذه الأزمة؛ فالولايات المتحدة والقوى الغربية ترى في النظام اللامركزي ضمانة لاستقرار سوريا ومنع تجدد النزاعات الطائفية، بينما تتباين مواقف بعض الدول الإقليمية بين مؤيد للفيدرالية ومعارض لها، ما يزيد من تعقيد المفاوضات ويضعف احتمالات الوصول إلى حل شامل سريع.

يتفق معظم الخبراء على أن نجاح الفيدرالية أو الإدارة الذاتية في سوريا يعتمد على صياغة عقد اجتماعي جديد يعترف بالتنوع العرقي والديني ويمنح المناطق صلاحيات واسعة دون التفريط بالوحدة الوطنية. ويستشهد البعض بالنموذج الألماني بعد الحرب العالمية الثانية، حيث نجحت الفيدرالية في توحيد الدولة مع احترام خصوصيات الأقاليم، ما قد يكون مرجعًا محتملًا لسوريا، إذا ما تم تطبيقه وفق ظروفها المحلية الفريدة.

أزمات مثل الهجمات الإرهابية، والانقسامات الطائفية، والعجز الأمني المستمر، تجعل من الخيارات اللامركزية والفيدرالية أدوات عملية لتخفيف الضغط عن الحكومة المركزية وضمان نوع من المشاركة المجتمعية في إدارة المناطق.

 ومع ذلك، يواجه تطبيق هذه النماذج معوقات كبيرة تشمل رفض الحكومة المركزية، وتدخلات القوى الإقليمية، والمخاوف من تحويل اللامركزية إلى تقسيم فعلي للبلاد على أسس طائفية أو إثنية.

وبالنظر إلى الواقع الحالي، يبدو أن الحوار حول مستقبل سوريا لن يكون سهلاً، حيث تتقاطع مصالح الداخل مع الأجندات الخارجية، ويظل السوريون أمام تحدٍ كبير لصياغة مستقبل يضمن الاستقرار، ويحقق العدالة للمكونات المتنوعة، ويحمي حقوق الأقليات، دون المساس بوحدة الدولة. وفي النهاية، فإن قدرة السوريين على التوصل إلى توافق داخلي حول نموذج حكم متوازن قد تكون المحك الحقيقي لاستعادة الأمن والاستقرار وبناء دولة حديثة تحترم تنوعها الداخلي.

في ضوء كل ما سبق، تظل أزمة الفيدرالية في سوريا انعكاسًا لتاريخ طويل من الصراعات المركزية، والتوترات الطائفية، والحاجة الملحة لنظام حكم يوازن بين السلطة المركزية وحقوق المناطق المحلية، ما يجعل من اللامركزية والفيدرالية خيارًا مطروحًا على الطاولة بقوة، لكنه محفوف بالتحديات والعقبات السياسية، الأمنية، والإقليمية.