آراء وأقلام

د. أنمار الدروبي يكتب: قمة ألاسكا.. احتدام الاستقطاب الايديولوجي وسياسة تعميق التناقضات بين أمريكا وروسيا!

الأحد 17 أغسطس 2025 - 09:47 م
د أنمار الدروبي
د أنمار الدروبي

كان لانهيار الاتحاد السوفيتي آثارا انعكست على صعيد السياسة الخارجية الروسية واستراتيجيتها وسماتها، كما انعكست على واقع السياسة الدولية عموما والتي نجم عنها تفرد السياسة الدولية بقطب واحد هو الولايات المتحدة الأمريكية. هذه الآثار في ظل الأزمات الداخلية الاقتصادية منها والسياسية التي عصفت بالاتحاد السوفيتي وورثتها روسيا عنه، جعل عملية صياغة الاستراتيجية الروسية في إطارها الخارجي ذات تناقضات ما بين الواقع الجديد والواقع السابق، وما بين الإمكانيات الجديدة ومتطلبات عملية التنمية الداخلية والإصلاحات المناطة بأي قيادة سياسية قادمة. والآن تحتل روسيا أهمية خاصة، ليس فقط لأنها لا تزال قوة عالمية عظمى بالمعيار العسكري، وبمعيار المساحة، والموارد الاقتصادية، والقدرات الكامنة العلمية والتكنلوجية، ولكن نظرا لما شهدته، منذ تولي فلاديمير بوتين رئاستها عام 2000، من خطوات جادة للعودة إلى مسرح السياسة العالمية بعد سنوات من تفكك الإمبراطورية. 

في السياق ذاته، تمتلك روسيا أهمية مضاعفة بالنظر إلى ما تمثله من ميراث الإمبراطورية السوفيتية التي ظلت تحتل مكانة القطب العالمي، في ظل عالم ثنائي القطبية لأكثر من نصف قرن. وعلى الرغم من حقيقة انتهاء صراع القطبية، وظهور عالم تعاوني جديد مختلف ومغاير، لا تزال المواقف الروسية في مجلس الأمن لها قوة لا يستهان بها. وفي السنوات الأخيرة، تبنت روسيا مواقف في سياستها الخارجية أحيت التطلعات بعودة التوازن إلى قمة العالم. إن روسيا بمنظورها الجديد تبحث عن توازن في إطار نظام دولي متوازن في تعدد القوى.

خاصة في ظل حالة ضعف قبضة الولايات المتحدة الأمريكية على أرضية هذا العالم، وصعود قوى دولية أخرى كالصين والهند والبرازيل وغيرها، والتي باتت تشكل قوى تتقاسم النفوذ وتأخذ من الولايات المتحدة الأمريكية.

وعلى الرغم من احتدام الاستقطاب الأيديولوجي وسياسة تعميق التناقضات هما السمة الغالبة على تاريخ العلاقات ما بين القطبين، فإن ذلك لم يمنع حدوث انفراج في العلاقات بينهما في بعض الأحيان. خير مثال على ذلك، زيارة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون لموسكو في عام 1973، وما نتج عنها من صياغة لمجموعة مبادئ تتعلق بتجنب المواجهة العسكرية والأزمات النووية ونبذ استخدام القوة، وما تبعها من زيارة الزعيم السوفيتي بريجنيف لواشنطن في عام 1973. إلا أن سرعان ما انتهت فترة الوفاق وعاد الاحتدام الأيديولوجي وسياسة تعميق التناقضات بينهما، وذلك بعد تدخل الاتحاد السوفيتي في أفغانستان عام 1979، وغزو فيتنام لكمبوديا. وقد أدت تلك الأحداث إلى اشتعال الحرب الباردة من جديد. وقام الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر باتباع سياسة تقوم على تعميق التناقضات بين الصين والاتحاد السوفيتي، وتكثيف التواجد النووي في كل من أوروبا ومنطقة الخليج. واستكمل رونالد ريغان هذه الاستراتيجية، وعمل على تسريع سباق التسلح وإطلاق مبادرة الدفاع الاستراتيجي عام 1983. وغير ذلك كان لروسيا حضور بارز في موضوع الملف النووي الإيراني الذي جرى التوصل إليه في يوليو عام 2014. لاسيما كانت مساعي بوتين في هذا الاتجاه، هي تغيير نهج السياسة الأمريكية، وتحديدا أن تتعامل واشنطن مع موسكو كشريك في الشأن الدولي.

ثم جاءت الحرب الروسية الأوكرانية، لاسيما أن تحرك بوتين اتجاه أوكرانيا له مبررات تاريخية، لأن الوقائع التاريخية تؤكد على أن هناك صلة وثيقة بين أوكرانيا مع روسيا سواء كانت روسيا القيصرية أو روسيا الشيوعية، بدليل أن كييف عاصمة أوكرانيا كانت تسمى (روسيا الكييفية). وإذا ما تحدثنا عن تبلور أول كيان سياسي في هذه المنطقة في القرن الثالث عشر هو (كييف روسيا) إلى درجة أن روسيا في أثناء الفترة الشيوعية تخلت طوعا عن أقاليم كانت تابعة لها مثل شبه جزيرة القرم إلى أوكرانيا، مع العرض أن روسيا حصلت عليها بالحرب مع الإمبراطورية العثمانية.

في الوقت نفسه يسعى الرئيس بوتين إلى عملية تصحيح استراتيجي، بمعنى أنه يرجع هذه التصحيح إلى ما انتهت به الحرب الباردة، تلك الحرب التي تركت أسئلة معلقة، وهذ الأسئلة تُذكرنا بنهاية الحرب العالمية الأولى والغرامات والتبعات الكبيرة التي كانت على عاتق ألمانيا، فحاولت ألمانيا تصحيح الطريقة التي انتهت بها الحرب العالمية الأولى والتي ترتب عليها الحرب العالمية الثانية، فأنتهى الأمر إلى خلق نظام دولي جديد.

بمعنى أن الطريقة الخاطئة التي انتهت بها الحرب الباردة كانت نتائجها ما يشهده العالم اليوم من صراعات، وروسيا تحاول تصحيح الاخطاء مما سينتهي الأمر إلى خلق نظام دولي جديد.

وفقا لما تقدم، كان من الطبيعي أن القمة بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، التي عُقدت الجمعة في ولاية ألاسكا، لم تُسفر عن أي اتفاق والتوصل إلى حل أو لوقف الحرب في أوكرانيا. ولم ينتج عن المحادثات أي خطوات ملموسة لوقف إطلاق النار في الصراع، الذي وصفه ترامب قبل القمة بأنه الهدف الرئيسي من لقائه مع بوتين، مشيرا إلى أنه أكثر الحروب دموية تشهدها أوروبا منذ 80 عاما.

بالتالي فإن الرئيس بوتين لم ولن يتخلى عن مبادئ أيديولوجيته مقابل لعبة السياسة الدولية وعقد الصفقات السريّة مع الغرب لقاء مكاسب يحققها على حساب الشعوب، كما تخلى زعماء الكرملين عن أيديولوجيتهم عندما كان الاتحاد السوفيتي قوى عظمى. فبينما كانت الشيوعية تقضّ مضاجع السياسة الإمبريالية في أمريكا الجنوبية ودول الشرق الأوسط. كان زعماء الكرملين في روسيا يقايضون أو يبيعون تلك الشعوب، فقبل أن يسقط الاتحاد السوفيتي، سقطت الأحزاب الشيوعية في كثير من دول العالم، بدون مبررات سوى فشل القيادة السوفيتية.

حقا لقد نجح الرئيس بوتين في إرساء دعائم نظام دولة عظمى بحدود الاتحاد الروسي، لكن طموحه لأبعد من حدود اتحاد دولته يحتاج الى عقد سياسي يتيح له استيعاب كل التناقضات.  وعليه ألا يكون بديلا لمليء الفراغ السياسي الذي يتسع بسبب تفاقم فشل السياسة الأمريكية. نتأمل من الرئيس بوتين ألا ينجرف إلى لعبة الحرب الباردة وسباق التسلح الذي سينهك الاقتصاد الروسي بلا طائل.