دراسات وأبحاث

عودة الدب الروسي للبحار..كيف تعيد موسكو بناء قوتها البحرية بمشروع المدمرات النووية؟

الأحد 17 أغسطس 2025 - 12:05 ص
مصطفى سيد
الأمصار

تشهد الساحة العسكرية العالمية تحولات كبيرة مع إعلان روسيا عن قرب الانتهاء من تصميم أول مدمرة جديدة منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، وهو ما يعكس طموح موسكو لإعادة بناء قوتها البحرية والانضمام مجددًا إلى نادي القوى البحرية الكبرى.

 المشروع الذي يحمل أبعادًا استراتيجية يتجاوز حدود الصناعات العسكرية التقليدية، إذ يمثل خطوة في إعادة صياغة موازين القوى في البحار والمحيطات.

روسيا والعودة إلى البحر من جديد

على مدار العقود الماضية، اعتمدت البحرية الروسية بشكل أساسي على الفرقاطات والسفن الصغيرة، في وقت كانت فيه القوى البحرية الكبرى مثل الولايات المتحدة والصين تطور أساطيل ضخمة من المدمرات وحاملات الطائرات. ومع الإعلان الجديد، تعلن موسكو أنها في طريقها لتغيير هذا الواقع.

الأدميرال ألكسندر مويسيف، القائد العام للبحرية الروسية، أكد أن العمل على التصاميم الفنية للمدمرة الجديدة وصل إلى مراحله النهائية، وسيتم تسليم التصميم في موعده، تمهيدًا لبدء البناء ضمن البرنامج البحري القادم.

هذه المدمرة، التي يُنظر إليها على أنها "قفزة نوعية"، ستكون منصة قادرة على تنفيذ مهام قتالية بعيدة المدى، وهو ما يضع روسيا على أعتاب مرحلة جديدة في تاريخها البحري.

تحديات تاريخية وصناعية

منذ تفكك الاتحاد السوفيتي، لم تنجح روسيا في إدخال تصميم جديد للمدمرات، باستثناء عدد محدود بُني خصيصًا للصين خلال تسعينيات القرن الماضي. هذا الانقطاع الطويل أثار الشكوك بشأن قدرة الصناعات العسكرية الروسية على استعادة زخمها، خاصة في ظل العقوبات الغربية التي حدّت من وصول موسكو إلى التكنولوجيا المتقدمة.

في العقد الماضي، طرحت روسيا مشروع "ليدر" العملاق لبناء مدمرات تعمل بالطاقة النووية وتزن نحو 14 ألف طن. ورغم أن المشروع كان طموحًا للغاية، إلا أنه تعثر بسبب التكلفة الضخمة والصعوبات التقنية، ليبقى حبيس الأوراق والوعود الرسمية.

لكن إعلان اليوم يشير إلى أن روسيا مصممة على المضي قدمًا في خططها، رغم الظروف الاقتصادية الصعبة.

قوة نارية خارقة

تسريبات عسكرية أوضحت أن المدمرة الجديدة ستدمج بين منظومات دفاع جوي متقدمة مثل إس-400 بنسخها البحرية، وصواريخ تسيركون الفرط صوتية. هذه الصواريخ، التي أثبتت فعاليتها عند دمجها في تحديث طرادات "كيروف"، تمنح روسيا قدرة هجومية ودفاعية متفوقة، خصوصًا أن الصاروخ "تسيركون" لا يمتلك مثيله إلا الصين في الوقت الحالي.

الخبراء يرون أن امتلاك مدمرة بهذه القدرات سيجعل روسيا منافسًا مباشرًا للولايات المتحدة في سباق التسلح البحري.

التعاون مع الصين.. دعم أم اعتماد؟

بحسب مجلة "مليتري ووتش"، قد تكون الصين عنصرًا مساعدًا مهمًا في نجاح المشروع الروسي. فبكين بنت أكثر من 40 مدمرة خلال السنوات العشر الأخيرة، لتصبح أكبر منتج عالمي في هذا المجال.

هذا الواقع يفتح الباب أمام تعاون روسي-صيني لتبادل الخبرات، لكنه في الوقت نفسه يكرس اعتماد موسكو المتزايد على بكين في التكنولوجيا العسكرية، وهو ما قد يطرح أسئلة حول استقلالية الصناعات الدفاعية الروسية.

الأسطول الروسي بين الواقع والطموح

حاليًا، يضم الأسطول الروسي 11 مدمرة فقط تعود معظمها إلى الحقبة السوفياتية، بالإضافة إلى 3 طرادات. أي ما مجموعه 14 سفينة كبيرة قادرة على العمل في المحيطات.

مقارنةً بحجم الجيش الروسي وطموحاته الجيوسياسية، يُعتبر هذا العدد متواضعًا للغاية. لذلك، يُنظر إلى المدمرة الجديدة على أنها العمود الفقري لأي خطة لتجديد وتوسيع الأسطول الروسي.

المحللون يرون أن هذا المشروع ليس مجرد خطوة صناعية، بل اختبار حقيقي لقدرة روسيا على استعادة مكانتها البحرية في ظل العقوبات الدولية والتحديات الاقتصادية.

سباق التسلح البحري.. روسيا في مواجهة واشنطن وبكين

المشروع الروسي الجديد يعكس عودة سباق التسلح البحري إلى الواجهة، حيث تتسابق القوى الكبرى على امتلاك أسلحة بحرية قادرة على فرض الهيمنة في البحار. الولايات المتحدة تواصل تطوير مدمراتها من فئة "أرلي بيرك"، بينما تبني الصين بوتيرة متسارعة مدمرات من فئات متقدمة.

نجاح روسيا في إدخال مدمرة حديثة إلى أسطولها قد يعيد التوازن إلى المشهد، ويجعل موسكو طرفًا لا يمكن تجاهله في أي مواجهة بحرية مستقبلية.

العقوبات الغربية ومعضلة التكنولوجيا

واحدة من أبرز العقبات التي تواجه روسيا هي العقوبات الغربية، والتي حرمتها من استيراد الكثير من المكونات والتقنيات اللازمة لبناء سفن حديثة. هذا ما يجعل التعاون مع الصين خيارًا شبه إلزامي لتجاوز هذه المعضلة.

ومع ذلك، فإن الاعتماد الزائد على بكين قد يخلق تبعية استراتيجية، وهو ما قد يتعارض مع سياسة موسكو في السعي نحو الاستقلال العسكري.

البعد الاستراتيجي للمشروع

المدمرة الجديدة ليست مجرد سلاح، بل رسالة سياسية قوية للعالم. فهي تعكس إصرار موسكو على تحدي العقوبات واستعادة مكانتها كقوة بحرية عظمى، بعد أن ظلت لعقود تعتمد على ما ورثته من الاتحاد السوفيتي.

كما أن المشروع يحمل أبعادًا تتعلق بتوازن القوى العالمي، إذ أن وجود مدمرات روسية متطورة سيغير من حسابات الناتو في أوروبا، والولايات المتحدة في المحيط الأطلسي، والصين في آسيا.

اختبار الإرادة الروسية

نجاح روسيا في بناء هذه المدمرة سيكون دليلاً على قدرتها على تجاوز القيود الدولية، أما فشل المشروع فسيؤكد أن العقوبات الغربية لا تزال فعالة في كبح طموحات الكرملين.

المراقبون يعتقدون أن موسكو ستبذل قصارى جهدها لإنجاح المشروع، ليس فقط لأسباب عسكرية، بل لأسباب سياسية تتعلق بمكانتها العالمية وصورتها كقوة عظمى.

إعلان روسيا عن المدمرة الجديدة يمثل نقطة تحول في استراتيجيتها العسكرية البحرية.

 فهي خطوة تحمل في طياتها الكثير من التحديات، لكنها في الوقت نفسه تعكس رغبة موسكو الجامحة في استعادة أمجادها البحرية.

وبينما يترقب العالم ما ستسفر عنه الخطط الروسية، تبقى الأسئلة قائمة: هل ستنجح موسكو في دخول عصر المدمرات الحديثة بقوة، أم ستبقى محاولاتها رهينة العقوبات والعوائق الصناعية؟