آراء وأقلام

حسان يوسف ياسين يكتب: «صَلبُ غزة»

الجمعة 15 أغسطس 2025 - 08:57 ص
حسان يوسف ياسين
حسان يوسف ياسين

عند تأملنا في الدمار الذي حلّ بغزة اليوم ومعاناة أهلها، لا يسعنا إلا أن نعود بالذاكرة إلى شعب آخر تعرّض للاضطهاد في المنطقة نفسها قبل آلاف السنين على يد الرومان، وكان أحدهم قد سُمِّر على صليب فقط لأنه كان يسعى للسلام والتفاهم.

واليوم، يعاني شعب غزة، الذي ذاق بالفعل من ويلات اللا إنسانية أكثر مما يحتمل، من صلبٍ على نطاق أوسع بكثير. عشرات الآلاف من الأبرياء قُتلوا، وأرض بأكملها، بمنازلها ومستشفياتها وطرقاتها، تحولت إلى أنقاض، وشعب يائس يتضور جوعاً في العراء.

ولا يسعنا إلا أن نتذكر كيف أن الرومان، الذين دفنوا عظمتهم في الجنون والكراهية والاضطهاد، بدأوا شيئاً فشيئاً في تقويض إمبراطوريتهم من الداخل.

هناك طريقة مباشرة يبدو فيها التاريخ كأنه يعيد نفسه، كشعب ينهض من أعماق القمع والإبادة الجماعية، ساعياً إلى بناء دولة تقوم على الكرامة والديمقراطية والأمل، ويقع في فخ التطرف والكراهية والغضب نفسه تجاه شعب مضطهد كان يستهدفه ذات يوم.

إن مأساة هذا الحدث لا يمكن المبالغة في وصفها، ليس فقط بالنسبة إلى شعب غزة وكل الشعب الفلسطيني، بل أيضاً للشعب الإسرائيلي الذي كان يسعى لبناء نموذج يُحتذى به من خلال تجسيد التسامح والتفاهم والاحترام. غير أن اندفاعهم نحو العنف أجّج مشاعر شعوب محبة للسلام في أنحاء العالم، والتي لم تعد تشكك في هوية المعتدي.

إن العنف والكراهية اللذين تمارسهما إسرائيل بحق غزة والشعب الفلسطيني يقوّضان بالفعل أسس دولة مبنية على قيم إنسانية عالمية. العالم لم يعد منخدعاً.

يمثل الشرق الأوسط شيئاً خاصاً جداً للإنسانية، فهو ليس مهد الحضارة فحسب، بل أيضاً مهد الديانات التوحيدية الثلاث العظيمة ورسلها من الله. إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (عليهم السلام) حملوا رسالة سلام وتسامح ورحمة من السماء. إن نقل هذه القيم إلى العالم هو مهمة وواجب يقع على عاتق منطقتنا وشعوبها. ونحن نرد على هذه الأعمال من الكراهية والعنف بمد يد السلام. وإذا أراد الإسرائيليون أن يكونوا جيراناً لنا بحق، فعليهم أن يأخذوا بيدنا، وأن يكرموا معنا رسالة أنبيائنا.

قبل ألفَي عام، لم تُبث عملية صلب رسول سلام على الهواء مباشرةً عبر التلفزيون أو وسائل التواصل الاجتماعي كما يحدث اليوم مع صَلب أهل غزة. ولحُسن الحظ، فإن أولئك الذين في الغرب، وبخاصة في الولايات المتحدة، الذين ظلوا حتى وقت قريب غافلين عن معاناة الشعب الفلسطيني المستمرة منذ عقود، أصبحوا اليوم على دراية تامة بحجم التجاهل واللا إنسانية التي يعاملهم بها الإسرائيليون. الناس يتضورون جوعاً ويموتون أمام أعيننا، ضحايا وحشية بلا حدود لنظام يرتكب جرائم ضد الإنسانية يومياً.

علينا جميعاً أن نتذكر التاريخ ونفهم أن اضطهاد الشعوب التي تسعى فقط إلى عيش حياة كريمة وسلمية لا يؤدي إلى فساد هذه الشعوب، بل إلى فساد مضطهديها.

إن رؤية طفل واحد فقط، ناهيك بعشرات الآلاف من الأطفال، يفقدون حياتهم، أو أطرافهم، أو يصبحون أيتاماً، أمر لا يمكن لأي شخص أن يتحمله. العالم يقول «كفى» ويدعونا جميعاً لأن نستيقظ قبل أن يُصلب السلام نفسه وسط هذه الفاجعة القاتلة.

قد حمل أنبياء الشرق الأوسط دائماً رسالة سلام وكرامة، وبخاصة للأشد فقراً وضعفاً بيننا.

فلنذكّر جميعاً من يرتكبون أو يبررون أو حتى من يقفون فقط متفرجين على مثل هذا العدوان أن العالم يكافئ من يتعاملون بالكرامة والاحترام، لا من يتعاملون بالموت والدمار.

نقلًا عن صحيفة الشرق الأوسط