دراسات وأبحاث

احتجاجات أوكرانيا تقلب المشهد السياسي.. قانون مكافحة الفساد يشعل أزمة ثقة بزيلينسكي

الأربعاء 06 أغسطس 2025 - 12:14 ص
مصطفى سيد
الأمصار

تعيش أوكرانيا منذ أواخر يوليو/تموز 2025 واحدة من أخطر الأزمات السياسية التي تهدد استقرار البلاد داخليًا، وتعيد صياغة العلاقة بين الشعب والسلطة، مع تصاعد الاحتجاجات الشبابية ضد قرارات الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الأخيرة بشأن مؤسسات مكافحة الفساد.

صدام السلطة والشارع: القانون الذي أشعل الأزمة

وبدأت شرارة الأزمة عقب تمرير البرلمان الأوكراني في 29 يوليو قانونًا أثار جدلًا واسعًا، يقضي بإلغاء استقلالية المكتب الوطني لمكافحة الفساد (نابو) ومكتب المدعي العام المتخصص في مكافحة الفساد (سابو)، ووضعهما تحت إشراف مباشر من الحكومة، مما اعتبره مراقبون انقلابًا صريحًا على أبرز إنجازات مرحلة ما بعد الثورة الأوكرانية في 2014.

التحرك المفاجئ قوبل برد فعل غاضب من الشارع، قادته حركة احتجاجية شبابية تنامت بسرعة، ووجدت دعمًا من المجتمع المدني والناشطين والحقوقيين، لتتحول إلى موجة ضغط سياسي دفعت البرلمان إلى التراجع عن القانون سريعًا في جلسة استثنائية يوم 31 يوليو.

دعم دولي مشروط وتهديدات بتجميد المساعدات

ولم يقتصر الضغط على الداخل فقط، بل جاء أيضًا من الحلفاء الغربيين، خاصة الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، اللذين أعربا عن استيائهما من المساس باستقلال مؤسسات مكافحة الفساد، ملوحين بإعادة تقييم حجم المساعدات المقدمة لكييف والتي تُعد شريانًا حيويًا للبلاد وسط استمرار الحرب مع روسيا.

مجلة "فورين بوليسي" الأميركية وصفت الأزمة بأنها "نقطة تحول" في العلاقة بين زيلينسكي وشعبه، مشيرة إلى أن القانون الذي حاول تمريره تزامن مع حملة مداهمات أمنية نفذها جهاز الأمن الأوكراني ضد موظفين في "نابو"، شملت أكثر من 20 موقعًا بزعم التحقيق في تسريبات أمنية تتعلق بأسرار الدولة.

اتهامات بالاستبداد.. وزالوجني يعود إلى الواجهة

يرى مراقبون أن هذه الأزمة أعادت فتح ملف "النهج السلطوي" للرئيس زيلينسكي، خاصة في ظل سلسلة من الإجراءات التي وُصفت سابقًا بأنها تضييق على الحريات، من بينها:

ورغم أن الكثير من هذه الإجراءات مرت دون معارضة تُذكر، فإن محاولة إخضاع وكالات مكافحة الفساد مثلت تجاوزًا غير مقبولًا حتى في عيون المؤيدين.

وفي هذا السياق، تعود إلى الواجهة شخصية فاليري زالوجني، القائد السابق للجيش الأوكراني الذي أقاله زيلينسكي العام الماضي، ويُنظر إليه الآن كبديل محتمل للرئاسة. فبحسب استطلاع رأي أجرته شركة "سوسيس" في يونيو، سيهزم زالوجني زيلينسكي في أي انتخابات رئاسية قادمة بنسبة 60.5% مقابل 39.5%.

أزمة داخل الحزب الحاكم وتراجع شعبيته

حزب "خادم الشعب"، الذي ينتمي إليه زيلينسكي، يواجه هو الآخر أزمة ثقة متفاقمة. حيث تشير التوقعات إلى أنه قد يفقد أغلبيته البرلمانية في أي انتخابات قادمة، لصالح تحالفات جديدة قد تتشكل على أساس مناهض للسلطة الحالية.

ويعتبر مراقبون أن هذه الأزمة أعادت ضبط علاقة الرئيس بالشارع، وأجبرته على إعادة حساباته، خاصة أن الدعم الدولي بات اليوم مرتبطًا بمعايير صارمة تتعلق بالحوكمة، وسيادة القانون، واستقلال القضاء.

هل انتهت حقبة زيلينسكي السياسية؟

ورغم التراجع الملحوظ في الثقة الشعبية، لا تزال بعض المؤشرات تشير إلى مرونة النظام السياسي الأوكراني، إذ أن استجابة زيلينسكي السريعة ورضوخه للضغط الجماهيري تعكس، من وجهة نظر البعض، تمسكه بشكل من أشكال المساءلة الديمقراطية.

كما أن السنوات الأخيرة شهدت بالفعل انخفاضًا ملموسًا في مستويات الفساد مقارنة بالعقود الماضية، بفضل إصلاحات جوهرية في النظام المصرفي، وتقليص نفوذ الأوليغارشية، وتطبيق أنظمة شفافة في تخصيص العقود الحكومية.

مستقبل غامض.. ومجتمع مدني صلب

الأزمة الحالية سلطت الضوء أيضًا على صلابة المجتمع المدني الأوكراني، وقدرته على الدفاع عن المؤسسات الديمقراطية حتى في ظل ظروف الحرب المستمرة منذ 2022. المتظاهرون لم يطالبوا باستقالة الرئيس أو إسقاط النظام، بل دعوا إلى احترام استقلال القضاء، وتعزيز الشفافية، وإنهاء تسييس أجهزة الرقابة.

وبعد أكثر من ثلاث سنوات من الحرب، يُثبت الشعب الأوكراني أن الالتزام بالديمقراطية ليس رفاهية، بل ضرورة لمواجهة تحديات الداخل والخارج، خاصة في ظل استمرار العدوان الروسي، وتعقيدات إعادة الإعمار، واعتماد البلاد على دعم دولي مشروط بالإصلاح.