بعد تعثر مفاوضات الهدنة الشاملة في قطاع غزة، أعلنت إسرائيل عن "تعليق تكتيكي مؤقت ومحدود" للعمليات العسكرية في بعض مناطق القطاع، وهو ما أثار تساؤلات كثيرة حول الأسباب والدوافع وراء هذا القرار المفاجئ.
في هذا الصدد سنحلل الأبعاد المختلفة لهذا التحرك الإسرائيلي، من الضغوط الدولية المتزايدة إلى الأوضاع الإنسانية المتردية، وصولًا إلى الديناميكيات الداخلية في الحكومة الإسرائيلية.
كانت الصور المروعة لأطفال غزة الذين يعانون من سوء التغذية والجوع قد غزت وسائل الإعلام العالمية، من الصحف الأوروبية إلى المجلات الأمريكية، مما خلق حالة من الغضب والاستياء الدولي المتزايد.
لم يعد الأمر مقتصرًا على التقارير الصحفية، بل تحول إلى ضغط مباشر على الحكومات الغربية التي كانت تدعم إسرائيل بشكل كبير في بداية الحرب.
هذا الضغط العالمي، الذي دفع قادة العالم إلى التحرك، كان أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت إسرائيل مضطرة لإعادة النظر في سياستها تجاه إدخال المساعدات الإنسانية.
إن الهدنة التكتيكية المؤقتة التي أعلنها الجيش الإسرائيلي هي محاولة واضحة لامتصاص هذا الغضب العالمي المتزايد. فمن خلال إظهار استعدادها للتخفيف من الأوضاع الإنسانية، تحاول إسرائيل تقديم صورة مختلفة للعالم، صورة تتناقض مع الاتهامات المستمرة بتعمد تجويع السكان في القطاع.
لم يأتِ القرار الإسرائيلي من فراغ، بل كان نتيجة لاتصالات دبلوماسية مكثفة. فقد أكد مسؤولون إسرائيليون، من بينهم الرئيس إسحاق هرتسوغ، أن الكثير من أصدقاء إسرائيل حول العالم أجروا اتصالات مباشرة للمطالبة بوضع حد للمأساة الإنسانية في غزة.
هذه الاتصالات لم تكن مجرد نصائح، بل كانت تحذيرات من عواقب استمرار الأزمة الإنسانية على صورة إسرائيل وعلاقاتها الدولية.
من ناحية أخرى، حاولت الحكومة الإسرائيلية، في بداية الأمر، تبرير حجبها للمساعدات الإنسانية، لكنها فشلت في إقناع المجتمع الدولي. وبدلًا من تحمل المسؤولية، بدأت إسرائيل تلقي اللوم على المؤسسات الأممية والدولية، متهمة إياها بعدم تلقي المساعدات. وهو ما رفضته هذه المؤسسات بشكل قاطع، مؤكدة أن العقبة الحقيقية هي الإجراءات الإسرائيلية نفسها.
وفي محاولة لتنصل من المسؤولية، دعا الرئيس الإسرائيلي هرتسوغ وكالات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية إلى "القيام بدورها وضمان وصول المساعدات إلى المحتاجين دون تأخير"، مدعيًا أن إسرائيل طالبت بذلك منذ فترة.
وتأتي هذه الدعوة في سياق محاولة إسرائيلية لقلب الطاولة، وإظهار أن المشكلة ليست في حجبها المساعدات، بل في عدم قدرة المنظمات الدولية على توزيعها.
في السابق، حاولت إسرائيل الترويج لمؤسسة "غزة الإنسانية" كبديل عن الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، بدعم من الإدارة الأمريكية. لكن هذه المحاولة باءت بالفشل الذريع، حيث رفضت المؤسسات الأممية والدولية التعامل مع هذه المؤسسة، وتعرضت لانتقادات شديدة من وسائل الإعلام الدولية الكبرى، مما أجبرها على إصدار عدة توضيحات لتبرير وجودها. هذا الفشل زاد من الضغط على إسرائيل لإيجاد حلول أخرى، مثل الهدنة التكتيكية، للتخفيف من حدة الانتقادات.
في بداية الحرب، كانت إسرائيل تتمتع بدعم غربي كبير، خاصة من الولايات المتحدة وأوروبا. لكن مع استمرار العمليات العسكرية وتفاقم الأوضاع الإنسانية، تحول هذا الدعم إلى انتقادات متزايدة.
لم تعد التحذيرات التي كان يطلقها القادة الأوروبيون في الغرف المغلقة كافية، بل تحولت إلى بيانات عامة تندد بالوضع في غزة.
لقد وجدت إسرائيل نفسها في مواجهة "طوفان" من الانتقادات الدولية التي لا تتوقف. حتى حلفاؤها المقربون، مثل الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والإدارة الأمريكية الحالية، عبروا عن غضبهم من الصور القادمة من القطاع.
وقد اعترف الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ بهذا الأمر، قائلًا إنه تلقى "عددًا لا يُحصى من الرسائل من قادة، وأصدقاء لإسرائيل، وشخصيات إعلامية، وزعماء يهود من أنحاء العالم حول هذا الموضوع"، مؤكدًا أن "الرد الصحيح هو تحرك عملي مسؤول".
على الرغم من أن إسرائيل ترفض رسميًا وجود "مجاعة" أو "تجويع" في قطاع غزة، وتكتفي بالاعتراف بوجود "أوضاع إنسانية صعبة ومعقدة"، إلا أن القرار الأخير يعكس تناقضات داخلية كبيرة في حكومة بنيامين نتنياهو.
فبينما يطالب وزراء من اليمين المتطرف، مثل وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش، بالوقف الكامل لدخول المساعدات، اتخذ نتنياهو قرارًا بالتخفيف من الأوضاع الإنسانية في غيابهم.
وقد تم تبرير غيابهم بأنه بسبب فترة السبت، وهو ما يشير إلى محاولة نتنياهو اتخاذ قرار يخالف توجهات حلفائه اليمينيين المتشددين.
إن هذا الوقف التكتيكي المؤقت، والسماح بإنزال المساعدات جوًا، يمنح نتنياهو بعض الوقت لتخفيف حدة الانتقادات الدولية. لكن هذه الخطوات نفسها تتسبب في انتقادات حادة من داخل حكومته اليمينية، مما يضع نتنياهو في موقف صعب بين الضغوط الخارجية والداخلية.
وفي ظل هذا المشهد المعقد، يعتقد محللون إسرائيليون أن الحكومة الإسرائيلية قد تتجه في النهاية إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. ليس فقط للتخفيف من الانتقادات الدولية، بل أيضًا لحل الأزمة المحلية المتعلقة بعودة الرهائن الإسرائيليين، وهو ما قد يمنح نتنياهو بعض الدعم في الداخل.
يُظهر قرار إسرائيل بالتعليق التكتيكي للعمليات العسكرية في غزة مدى تأثير الضغط الدولي والدبلوماسي على سياساتها. إن صور الجوع والمأساة الإنسانية لم تعد مجرد أخبار عابرة، بل تحولت إلى أداة قوية لإجبار الحكومات على تغيير سياساتها. ومع استمرار تعثر مفاوضات الهدنة الشاملة، يبدو أن إسرائيل تحاول شراء الوقت وإدارة الأزمات من خلال حلول مؤقتة، في محاولة لتخفيف حدة الانتقادات المتزايدة من حلفائها وحتى من الرأي العام العالمي.