في مشهد مأساوي يتكرر كل عام، تشتعل غابات الأرض مجددًا، لكن ما نواجهه اليوم يفوق كل التوقعات. لم تعد هذه الحرائق مجرد كوارث محلية، بل تحوّلت إلى أزمة كوكبية تحمل في طيّاتها إشارات إنذار صارخة من كوكبٍ يئن تحت وطأة الإهمال البشري.
الحرائق تخرج عن السيطرة
من كندا إلى الجزائر، ومن أستراليا إلى غابات الأمازون، تتسارع ألسنة اللهب بسرعة تنذر بالخطر. بيانات الأقمار الصناعية تشير إلى أن مساحة الغابات المحترقة هذا العام تجاوزت متوسط السنوات العشر الماضية بنسبة تزيد عن 35%. ملايين الهكتارات تحوّلت إلى رماد، ومجتمعات بشرية وأسر حيوانية فُجعت بخسائر لا تُعوّض.
في ولاية كاليفورنيا، تم إجلاء عشرات الآلاف من السكان مع اقتراب الحرائق من الأحياء السكنية. أما في سيبيريا، فقد أشعلت درجات الحرارة غير المعتادة نيرانًا هائلة تهدد بإطلاق كميات ضخمة من الكربون المجمد في التربة، ما يزيد من اختناق الغلاف الجوي.
هواء سام... وسماء مغبرة
لم تعد آثار الحرائق محصورة على سطح الأرض، بل امتدت لتلوث السماء. سحب كثيفة من الدخان تحجب ضوء الشمس، وتُحيل النهار إلى شبه ليل. تدهورت جودة الهواء في العديد من المدن الكبرى إلى مستويات "خطيرة"، ما دفع هيئات الصحة العامة للتحذير من استنشاق الجسيمات الدقيقة المحمولة بالرياح.
في ساو باولو، تحوّل النهار إلى ظلام دامس بفعل الدخان المتصاعد من الأمازون. أما في أوروبا، فقد رُصدت آثار حرائق كندا في سماء بريطانيا وألمانيا، في مشهد يعكس مدى ترابط مصير البشرية أمام كوارث بيئية لا تعترف بالحدود الجغرافية.
الأسباب: مناخ يختنق وسلوك يستهتر
يرى العلماء أن التغير المناخي هو العامل الرئيسي وراء تصاعد هذه الحرائق، إذ تؤدي درجات الحرارة المرتفعة والجفاف الممتد إلى خلق بيئة مثالية لاندلاع النيران. ولكن، لا يمكن تجاهل دور الإنسان في تأزيم الوضع، سواء من خلال القطع الجائر للأشجار، أو تجاهل قوانين السلامة، أو إشعال الحرائق عمدًا لأغراض زراعية أو اقتصادية.
ما نعيشه اليوم هو نتيجة عقود من الإهمال البيئي، وصورة واضحة لصرخة استغاثة من كوكب لم يعد يحتمل المزيد.
الثمن باهظ: اقتصاديًا وصحيًا وبيئيًا
تُقدَّر الخسائر الاقتصادية بمليارات الدولارات، شملت البنى التحتية، المحاصيل الزراعية، مصادر المياه، وقطاع السياحة. أما الأثر البيئي، فهو أكثر تعقيدًا، إذ تحوّلت الغابات من مصدّر للأوكسجين إلى مصدر لانبعاثات الكربون، مما يُسهم في تسريع الاحترار العالمي.
أما صحيًا، فإن الأطفال، وكبار السن، ومرضى الجهاز التنفسي، هم الأكثر تضررًا من تداعيات التلوث الناتج عن هذه الحرائق، خاصة في الدول التي تفتقر إلى بنية صحية متقدمة وخطط طوارئ فعالة.
ما العمل؟
في ظل غياب اتفاق دولي حازم، تبقى الاستجابة السياسية دون المستوى المطلوب. ومع ذلك، هناك خطوات عاجلة وضرورية:
• تطوير أنظمة الإنذار المبكر والاستجابة السريعة.• سنّ وتشديد قوانين حماية الغابات.• فرض عقوبات صارمة على المتسببين في الحرائق عمدًا.• إشراك المجتمعات المحلية في جهود الوقاية والمراقبة.• والأهم: التحول الجاد نحو الاقتصاد الأخضر وخفض الانبعاثات الكربونية.
رسالة الكوكب واضحة
ما يحدث اليوم ليس إلا تذكيرًا بأن الأرض ليست مجرد مورد للاستغلال، بل كيان حيّ يتفاعل مع أفعالنا ويحاسبنا عليها. إن استمرار استنزاف الطبيعة وتجاهل التوازن البيئي لن يؤدي إلا إلى كوارث متلاحقة.
إشارات الغضب لم تعد خفية... فهل آن الأوان أن نكفّ عن صبّ الزيت على النار؟