دراسات وأبحاث

"جورج عبد الله".. مناضل لبناني وأقدم سجين سياسي في أوروبا

السبت 26 يوليو 2025 - 12:27 م
ابراهيم ياسر
من فصائل المقاومة إلى أيقونة النضال
جورج عبدالله
جورج عبدالله

وُلد جورج إبراهيم عبد الله في الثاني من نيسان/أبريل عام 1951 في بلدة القبيات بمحافظة عكار شمال لبنان، لأسرة مارونية مسيحية تقليدية. 

أمرت فرنسا بالإفراج عنه بعد 40 عاما من سجنه.. من هو جورج عبدالله؟

نشأ في بيئة ريفية محافظة، لكنه سرعان ما اتجه نحو الفكر القومي واليساري في ظل التغيرات السياسية العاصفة التي شهدها لبنان والمنطقة العربية في ستينيات القرن العشرين، والتي كان من أبرز ملامحها المد القومي الناصري، وصعود القضية الفلسطينية كقضية مركزية في وجدان الشعوب العربية.

جورج عبدالله

أنهى عبد الله دراسته في دار المعلمين في منطقة الأشرفية في بيروت، وتخرج عام 1970، ليعمل بعدها في سلك التعليم.

 إلا أن انخراطه السياسي المبكر دفعه إلى التفرغ للعمل النضالي، خاصة بعد تفاقم الأزمة اللبنانية وبروز التناقضات الطائفية والسياسية التي أدت لاحقاً إلى اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975.

الانخراط في المقاومة والعمل الفدائي

انضم جورج عبد الله إلى صفوف الحركة الوطنية اللبنانية، التي كانت تضم أحزاباً يسارية وقومية، وكان من أبرزها الحزب الشيوعي اللبناني. ومع تصاعد العدوان الإسرائيلي على لبنان، خصوصاً بعد الاجتياح الإسرائيلي الأول للجنوب في عام 1978، ثم الاجتياح الواسع عام 1982 الذي طال العاصمة بيروت، التحق عبد الله بصفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، حيث برز كأحد المناضلين البارزين في العمل الفدائي.

خلال هذه الفترة، أصيب عبد الله في أثناء مشاركته في مقاومة الاجتياح الإسرائيلي للجنوب، ما زاده إصراراً على مواصلة النضال

. ونتيجة لإيمانه بأهمية المقاومة المسلحة، أسس تنظيم "الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية" الذي اتخذ من الفكر الماركسي اللينيني مرجعية له، ووجّه عملياته ضد أهداف إسرائيلية وغربية، خصوصاً الأميركية، رداً على الدور السياسي والعسكري للولايات المتحدة في دعم إسرائيل والأنظمة الاستعمارية في المنطقة.

من هو جورج عبد الله «المقاتل» اللبناني الذي أمضى نصف عمره في السجن

الاعتقال والمحاكمة في فرنسا

في 24 أكتوبر/تشرين الأول 1984، اعتقلت السلطات الفرنسية جورج إبراهيم عبد الله في مدينة ليون، بتهمة حيازة وثائق مزورة، لكن التحقيقات قادتها لاحقاً إلى اتهامه بالتواطؤ في اغتيال الملحق العسكري الأميركي في باريس، تشارلز راي، عام 1982، والدبلوماسي الإسرائيلي ياكوف بارسيمانتوف عام 1982 أيضاً.

وفي عام 1987، أصدرت محكمة فرنسية حكماً بالسجن المؤبد عليه، رغم ما شاب المحاكمة من جدل سياسي وقانوني، خاصة مع اعتراف الحكومة الفرنسية آنذاك بأن هناك ضغوطاً سياسية من واشنطن وتل أبيب للإبقاء عليه في السجن.

 ومنذ عام 1999، أصبح جورج عبد الله مؤهلاً للإفراج المشروط، لكن السلطات الفرنسية رفضت مراراً تنفيذ ذلك، رغم موافقة لجان قضائية على إطلاق سراحه، مبررةً القرار بالضرورات السياسية والأمنية.

جورج عبدالله يصل إلى بيروت.. ماذا قال في أول تصريح له؟ (فيديو) - RT Arabic

ضغوط سياسية وتضامن حقوقي

تحول ملف جورج عبد الله إلى قضية دولية مع مرور السنوات، وأصبح رمزاً للسجناء السياسيين في الغرب، حيث يُعَد أقدم سجين سياسي في أوروبا حتى الإفراج عنه. وطالبت منظمات حقوقية وإنسانية عديدة بالإفراج عنه، مثل الرابطة الفرنسية لحقوق الإنسان، وجمعية التضامن الفرنسية الفلسطينية، والاتحاد اليهودي الفرنسي من أجل السلام، ومركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان.

كما شاركت هيئات دولية ومحامون ونشطاء من مختلف الجنسيات في حملات تضامن دورية، تُطالب بتطبيق القانون الفرنسي والإفراج عن عبد الله، خاصة أن معظم فترات السجن المؤبد في فرنسا لا تتجاوز عادةً 20 إلى 25 سنة، ما جعل استمرار احتجازه حالة استثنائية لها أبعاد سياسية واضحة.

وفي عام 1985، كانت فرنسا قد تعهدت ضمنيًا بإطلاق سراحه مقابل الإفراج عن الرهينة الفرنسي جيل سيدني بيرول الذي اختُطف في لبنان، لكن ذلك لم يُنفذ، ما زاد من تعقيد القضية وأكد أن مصير عبد الله محكوم بالمصالح السياسية لا العدالة القضائية.

بعد احتجازه 41 عامًا فى سجون فرنسا.. الناشط اللبنانى جورج عبد الله يصل  بيروت - اليوم السابع

الإفراج بعد أربعة عقود

خلال العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2023، طرح الحزب الشيوعي اللبناني ملف جورج عبد الله على طاولة الحركات الفلسطينية، خاصة حركة حماس، لبحث إمكانية إدراجه ضمن أي صفقة تبادل أسرى مستقبلية، ما أعاد قضيته إلى الواجهة الإعلامية والسياسية من جديد.

وفي 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، أصدرت محكمة فرنسية قراراً بالإفراج المشروط عنه، مع شرط مغادرة الأراضي الفرنسية وعدم العودة إليها. وفي 17 يوليو/تموز 2025، تم تنفيذ القرار أخيراً، بعد أربعين عاماً قضاها عبد الله في السجون الفرنسية، ليُفرج عنه كأقدم معتقل سياسي في القارة الأوروبية، وتُطوى بذلك صفحة من أطول فصول السجن السياسي في العالم الحديث.

رمز للمقاومة في وجه الهيمنة

لا يزال جورج إبراهيم عبد الله حتى اليوم يُعتبر رمزاً للمقاومة ضد الهيمنة الغربية، سواء في لبنان أو خارجه. ويُنظر إليه باعتباره مناضلاً صلباً لم يُساوم على قناعاته رغم العقود الطويلة التي قضاها خلف القضبان. ورغم خروجه من السجن، يبقى ملفه شاهداً على العلاقة المعقدة بين القانون والسلطة السياسية في الدول الغربية، وعلى كلفة النضال من أجل القضية الفلسطينية في وجه القوى الكبرى.

لقد تحول عبد الله إلى أيقونة نضالية، ليس فقط بسبب سجنه الطويل، بل لأنه لم يتخلّ عن مواقفه ومبادئه حتى آخر لحظة، ولأنه اختار طريق المقاومة رغم ما كلفه من حرمان وحصار وعزلة. واليوم، بعد نيله الحرية، يتطلع أنصاره ومحبوه إلى مرحلة جديدة من النضال الرمزي والمعنوي، مستندة إلى تجربته الفريدة، التي أصبحت جزءاً من الذاكرة السياسية العربية والعالمية.