مرة بعد أخرى، تثبت دولة الاحتلال أنها لا تفوّت فرصة لنهش الجغرافيا العربية متى سنحت لها الفرصة، فمع تصاعد الفوضى في سوريا، تحركت تل أبيب سريعًا لتقويض السيادة السورية وفرض أمر واقع جديد، مستخدمة كل أدوات التمدد، من القوة العسكرية إلى الاختراقات الناعمة، في مشهد لا يعكس قلقًا أمنيًا بقدر ما يفضح شهية استعمارية مكشوفة نحو التوسع الاحتلالي.
دولة الاحتلال لم تكتفِ بمرتفعات الجولان التي احتلتها عام 1967، بل استغلت الفوضى التي صاحبت سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر الماضي، لتبدأ التوغل داخل المنطقة العازلة، التي كانت تخضع لرقابة أممية منذ قرابة نصف قرن، بطول 75 كم، فتحولت من حزام أمان إلى ممر احتلال، قبل أن تمتد العمليات إلى كامل الجولان بمساحة 1200 كيلومتر مربع، وتتقدم جنوبًا لمسافة 500 كيلومتر إضافي، مدعّمة وجودها بتسع قواعد عسكرية جديدة.
ورغم الإدانات الإقليمية والدولية، خاصة من القاهرة والرياض، أعلنت دولة الاحتلال رسميًا إلغاء اتفاقية "فضل الاشتباك" الموقعة عام 1974، زاعمة أنها فقدت صلاحيتها بعد انهيار نظام بشار الأسد، لكن الحقيقة أن ذلك كان تمهيدًا لشرعنة الاحتلال، حيث خفّضت عدد دوريات الأمم المتحدة من 60 إلى ثلاث فقط يوميًا، وفرضت سيادتها على الأرض برفع أعلامها، وبناء منشآت عسكرية داخل المنطقة العازلة.
وتحت شعار "حماية الأقليات"، بدأت دولة الاحتلال التسلل إلى النسيج الاجتماعي السوري، وفتح قنوات تواصل مع شخصيات درزية بارزة، ففي مايو الماضي، استقبلت إسرائيل وفدًا درزيًا، داعيةً إياهم للتعاون، لكن أهالي السويداء رفضوا ما وصفوه بـ"المسرحية"، وأحرقوا شاحنات المساعدات الإسرائيلية.
ورغم الرفض الشعبي، واصلت حكومة تل أبيب تهديداتها بالرد العسكري ضد أي اقتراب سوري، في خطوة لا تهدف إلى حماية الطائفة، بل إلى اختراق الدولة من الداخل.
وخلال الأيام الماضية، تحوّلت ذرائع "حماية الدروز" إلى غطاء لعمليات عسكرية إسرائيلية مكثفة، بدأت في محيط السويداء، ثم امتدت نحو العمق السوري، وبلغت ذروتها باستهداف مبنى قيادة الأركان في قلب العاصمة دمشق، في تطور وصفته مصادر إسرائيلية بـ"الرسالة الاستراتيجية".
ففي الساعات الـ24 الماضية، شهدت سوريا سلسلة غارات عالية المستوى نفذها جيش الاحتلال، زاعمًا أنها ضرورية لأمن تل أبيب.
وبالتوازي مع التصعيد الإسرائيلي في الجنوب، برزت تطورات لافتة داخل السويداء، حيث جرى التوصل إلى اتفاق شامل بين الدروز والحكومة السورية، يعيد دمج المحافظة بالكامل ضمن مؤسسات الدولة، من خلال نشر الحواجز الأمنية، وتنظيم السلاح، وإعادة تمركز الجيش داخل الثكنات، وتفعيل دور الشرطة المحلية، في مسار قد يعيد فرض السيادة، ويربك حسابات الأطراف التي راهنت على استمرار الفراغ والصراع.
ومع تغيّر الخرائط وأوراق اللعبة داخل سوريا، ومحاولة تل أبيب فرض سيادتها على أراضٍ لا تخصها، تحت ذرائع أمنية لا تقنع أحدًا، وتحويل الانتهاكات إلى مشروع استيطاني جديد ينهش الجنوب السوري، يبقى السؤال الأهم:
كيف يمكن وقف الانتهاكات الإسرائيلية للسيادة السورية؟ ولماذا لا يتحرك العالم، الذي يدّعي دعم النظام السوري الجديد، تجاه هذا التمدد العسكري المكشوف؟