في واحدة من أقوى العواصف التي ضربت إسبانيا خلال السنوات الأخيرة، اجتاحت العاصفة "دانا" البلاد خلال الأيام الماضية، متسببة في دمار واسع النطاق وفيضانات عارمة شلّت الحياة في عدد كبير من المناطق، خاصة شمال وجنوب البلاد.
ومع إعلان السلطات حالة التأهب القصوى في أكثر من 25 مقاطعة، تصاعدت المخاوف من اتساع رقعة تأثير العاصفة، وبدأت التساؤلات تُطرح حول احتمالية امتدادها نحو دول عربية قريبة.
جلبت "دانا" معها أمطارًا غزيرة غير مسبوقة، وعواصف رعدية شديدة، إلى جانب تساقط كثيف للبرد، مما أدى إلى انهيارات أرضية وقطع الطرق، فضلًا عن شلل شبه كامل في حركة النقل والمواصلات، سواء البرية أو الجوية. وتضررت مناطق مثل كتالونيا، ونفارا، وأراجون، وقشتالة وليون بشكل خاص، حيث سجلت فيها معدلات هطول أمطار وصلت إلى أكثر من 150 ملم خلال ساعات قليلة فقط، وفقًا لبيانات هيئة الأرصاد الجوية الإسبانية.
كما تسببت العاصفة في فيضان عدد من الأنهار، وعلى رأسها نهر "فويش" في إقليم برشلونة، الذي جرفت مياهه شخصين ما زالا في عداد المفقودين، فيما تمكنت قوات الإنقاذ من إنقاذ 8 آخرين بعد أن حوصروا داخل سياراتهم أو في منازلهم.
وحتى صباح اليوم، أكدت السلطات الإسبانية تسجيل ثلاث وفيات على الأقل جراء السيول الجارفة، بالإضافة إلى عشرات الإصابات، بعضها في حالات حرجة. كما تم إجلاء المئات من السكان من المناطق المنخفضة التي غمرتها المياه، مع تسجيل أكثر من 250 بلاغًا لحالات احتجاز داخل المنازل والسيارات.
أما الخسائر المادية، فقد كانت فادحة، إذ دمرت الفيضانات عشرات المنازل، وتسببت في انهيار جسور صغيرة، وجرفت سيارات، ودمرت شبكات الكهرباء والمياه في مناطق واسعة.
كما تعطلت حركة القطارات بين مدن رئيسية، وأغلقت بعض المطارات أبوابها لساعات بسبب غمر المدارج بالمياه، ما أدى إلى إلغاء عشرات الرحلات الجوية.
لم تسلم المناطق الزراعية من بطش العاصفة، إذ تكبد المزارعون في إقليم "تراغونا" ومناطق أخرى خسائر ضخمة، بعد أن غمرت مياه الأمطار المحاصيل، وأدت إلى نفوق أعداد كبيرة من الماشية. وقد دعت نقابة المزارعين الحكومة لإعلان هذه المناطق "منكوبة"، والمطالبة بتعويضات عاجلة للمزارعين الذين فقدوا محاصيلهم ومصدر رزقهم.
أعلنت الحكومة الإسبانية حالة الطوارئ في معظم الأقاليم المتضررة، وشكّلت غرف طوارئ مشتركة بين الجيش والحماية المدنية لمواجهة تداعيات الكارثة. كما دعت رئيس الوزراء بيدرو سانشيز المواطنين إلى توخي الحذر، وتجنّب التنقل إلا في حالات الضرورة القصوى، خاصة في المناطق الشمالية والشرقية، حيث لا تزال الأمطار الغزيرة مستمرة، وسط مخاوف من انزلاقات أرضية جديدة.
وانتشرت مقاطع مصورة على مواقع التواصل الاجتماعي، تظهر حجم الخراب، منها مشاهد لسيارات تغمرها المياه بالكامل، ومواطنين يفرون على الأقدام عبر الشوارع التي تحوّلت إلى أنهار، بالإضافة إلى انهيارات طينية ضربت قرى جبلية.
على الرغم من هول ما أحدثته العاصفة "دانا" في إسبانيا، فإن الخبراء يستبعدون أن تمتد تأثيراتها المباشرة إلى الدول العربية، خصوصًا في شمال إفريقيا والشرق الأوسط. فبحسب خبراء الأرصاد الجوية، فإن "دانا" تعتبر عاصفة متوسطية المنشأ، تشكلت بسبب اختلالات في أنظمة الضغط الجوي في جنوب غرب أوروبا، ولا تصنّف كعاصفة عابرة للقارات مثل بعض الأعاصير المدارية.
صحيفة إلباييس الإسبانية أشارت إلى أن حركة العاصفة محدودة ضمن مسارها الأوروبي، مدفوعة بالمنخفضات الأطلسية، ومن غير المتوقع أن تعبر نحو مناطق مثل المغرب أو الجزائر أو تونس، على الأقل في المرحلة الراهنة. لكنها نبّهت في الوقت ذاته إلى احتمالية حدوث عواصف فرعية مشابهة في بعض الدول المتوسطية خلال الفترة القادمة، خاصة مع ارتفاع درجات حرارة سطح البحر، وهو ما قد يؤدي إلى حالات اضطراب جوي شديدة لكنها محلية.
ما حدث في إسبانيا أعاد تسليط الضوء على التغيرات المناخية الحادة التي تضرب العالم، وبشكل خاص القارة الأوروبية. ففي الأعوام الأخيرة، شهدت إسبانيا وفرنسا وألمانيا واليونان سلسلة من الظواهر المناخية المتطرفة، من حرائق الغابات الضخمة إلى العواصف والفيضانات.
ويقول خبراء المناخ إن ظاهرة "دانا" ليست إلا واحدة من نتائج ظاهرة الاحتباس الحراري التي تؤدي إلى ارتفاع معدلات التبخر وتكاثف السحب، وبالتالي زيادة هطول الأمطار بشكل مفاجئ وعنيف.
الأمم المتحدة كانت قد حذّرت مرارًا من أن الدول الأوروبية لم تعد بمنأى عن الكوارث الطبيعية، بل أصبحت "نقاطًا ساخنة" محتملة للفيضانات والحرائق والعواصف، داعية إلى الإسراع في خطط التكيف المناخي والبنية التحتية المقاومة للظواهر المتطرفة.
عاصفة "دانا" لم تكن مجرد اضطراب جوي عابر، بل كانت جرس إنذار قوي يُسلّط الضوء على هشاشة البنية التحتية في مواجهة غضب الطبيعة، حتى في دول متقدمة مثل إسبانيا. وبين الخسائر البشرية والمادية، وتفاقم القلق الشعبي، يبدو أن أوروبا تدخل مرحلة جديدة من المواجهة مع قوى الطبيعة، ما يجعل مناخ العالم أكثر اضطرابًا، ويُبقي احتمالية انتقال هذا الخطر إلى دول أخرى — وإن كانت ضئيلة حاليًا — قائمة على المدى المتوسط.