لقد شهدت مصر حادثاً خطيراً، الأسبوع الماضي، عندما اشتعلت النيران بقوة في «سنترال رمسيس»، وهو مبنى تاريخي وسط العاصمة المصرية، تتركز فيه نسبة كبيرة من طاقة الاتصالات و«الإنترنت»، إلى حد أنه يُوصف عن حق بأنه «عصب الاتصالات» في البلاد، منذ افتتاحه عام 1927.
لا يمكن التقليل من آثار هذا الحادث المؤسف بطبيعة الحال؛ إذ ضرب «القلب النابض» للاتصالات القومية، وعطّل جوانب من الحياة، وأربك أخرى بشكل واضح، وقد امتد أثره إلى شبكات الهاتف الثابت والمحمول، كما أعاق عمل مرافق حيوية؛ مثل البنوك، وماكينات السحب الآلي، وبطاقات الدفع الإلكترونية، وأنظمة حجز الطيران والسكك الحديد، فضلاً عن الإضرار بحالة التداول في البورصة، وحرمان قطاعات واسعة من الجمهور من الوصول إلى شبكة «الإنترنت».
ستُسارع الحكومة لاحقاً إلى محاولة إدراك أبعاد الأزمة، ثم ستعمل على إخماد الحريق، وإيجاد نقاط اتصال بديلة عوضاً عن تلك التي تم شلها، قبل أن تحاول تقييم الخسائر، وتعويض الضحايا، حيث تسبب الحريق في مقتل أربعة أشخاص، وإصابة 27 آخرين، فضلاً عن هؤلاء الذين انقطعت الخدمات الاتصالية عنهم، وتضررت أعمالهم.
وبموازاة ذلك، ستجري أيضاً محاولة سياسية وعملية، لمراجعة الأخطاء، التي أدت إلى تفاقم تأثير هذا الحريق، وتحوله عنواناً رئيساً في التغطيات الإعلامية المحلية والدولية، وموضوعاً للمساءلة البرلمانية، وطوفاناً من الانتقادات والسخرية والمخاوف العميقة.
لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فمع سخونة الأجواء المعتادة في شهر يوليو (تموز)، وتصاعد «نظريات المؤامرة»، واستئثار الحادث باهتمام طاغٍ من وسائل الإعلام، سرت في المنصّات الإعلامية المختلفة أحاديث لا تنقطع عن «مؤامرة» تستهدف البلاد، وشاهِدها ارتفاع مُفترض في عدد الحرائق التي تندلع بموازاة الحريق الشهير.
ولم يقتصر الأمر في هذا الصدد على المستخدمين العاديين على وسائل «التواصل الاجتماعي»، أو حتى أعضاء «اللجان الإلكترونية» صاحبة الأغراض المشبوهة، لكنه امتد أيضاً ليشمل إعلاميين بارزين على منصات الإعلام «التقليدي» وبعض السياسيين والمشاهير، الذين راحوا يجزمون بأن هناك تدبيراً شريراً يستهدف «إشعال البلاد» بالحرائق، سعياً لتحقيق مصالح سياسية مُعينة.
فلماذا حدث هذا الميل الواضح لتبني «نظريات المؤامرة»؟ ولماذا وجدت هذه النظريات مؤيدين كثيرين ضمن أفراد النُّخبة والجمهور العادي؟
من جانبي، بدأت محاولة تقصّي هذه المسألة عبر استعراض عدد الحرائق التي تقع في البلاد عادةً، وقد وجدت الرقم مُثبتاً في بيانات «الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء»، التي أشارت إلى أن عدد الحرائق التي وقعت في مصر العام الماضي 2024، بلغ 46 ألفاً و925 حريقاً، وأن عدد هذه الحرائق في شهر يوليو من العام نفسه بلغ 3677 حريقاً، فضلاً عن الإفادة بأن عدد هذه الحرائق يزداد تاريخياً في أشهر الصيف مقارنةً بفصل الشتاء.
ثمة ثلاث نظريات إعلامية توضح أسباب تصديق البعض أن هذا الحريق الكبير هو حلقة من سلسلة حرائق كبرى مُدبرة تستهدف أمن البلاد واستقرارها:
أولى هذه النظريات هي نظرية «الانتباه الانتقائي»، وهي ظاهرة نفسية تجعل أفراداً من الجمهور وبعض المؤسسات أكثر حساسية لأي خبر عن حريق في أعقاب وقوع حريق كبير بأي مجتمع من المجتمعات.
أما النظرية الثانية، فتتعلق بـ«هوس الرصد»؛ إذ يُمعن الجمهور ووسائل الإعلام في تقصي أخبار الحرائق في أعقاب وقوع حريق كبير، مما يوحي للمجال العام بأن الحرائق تقع بوتيرة أكبر من اللازم، وأنها حتماً تحمل دلالات أمنية وسياسية.
وتتعلق النظرية الثالثة بـ«تأثير العدوى السلوكية»؛ حيث يؤدي النشر الكثيف لأخبار حادث ما إلى تشجيع المُقلدين من أصحاب السلوك الإجرامي أو الاضطراب النفسي على تقليد مثل ذلك الحادث، في فورة الاهتمام الإعلامي به.
لذلك، يجب ألا يندهش مَن يطالع الأخبار الواردة من مصر في أعقاب هذا الحادث حين يقرأ العناوين التالية في أهم المصادر الإعلامية: «مصرع سيدة مُسنة في حريق شقة»، و«حريق يلتهم عدداً من المقاعد الدراسية في قرية بصعيد مصر»، و«حريق يشتعل في مخبز بمحافظة الجيزة»، أو «حريق في مشتل على بُعد كيلو مترين من متحف».
يؤدي الإعلام دوراً مُهماً وحيوياً في تقديم الحقائق للناس عمَّا يحدث في مجال اهتمامهم، وفي الرقابة على أداء السلطات العامة، لكنَّ بعض الأعراض الثانوية للنشر المُكثف، والاهتمام الإعلامي المُضاعف، تؤدي إلى تأثيرات غير مرغوبة؛ مثل «تأثير العدوى السلوكية»، و«الانتباه الانتقائي»، و«هوس الرصد»، وهنا يكمن أحد أخطر أضرار التغطيات الإعلامية الضخمة للحوادث والجرائم.
نقلًا عن صحيفة الشرق الأوسط