آراء وأقلام

د. حسن أبو طالب يكتب: «ثورة نووية» في أميركا والعالم

الثلاثاء 27 مايو 2025 - 07:24 ص
د. حسن أبو طالب
د. حسن أبو طالب

كثيرة جداً الأوامر التنفيذية التي أصدرها الرئيس الأميركي دونالد ترمب في الأشهر القليلة، أي منذ العشرين من يناير (كانون الثاني) الماضي، وشملت مجالات عديدة، ما يجسد رؤيته لرفعة أميركا ودورها القيادي عالمياً مرة أخرى. غير أنَّ القرارات الأربعة التنفيذية، التي أصدرها السبت الماضي، والتي ألغت العديد من القيود التنظيمية الخاصة بالطاقة النووية في الأراضي الفيدرالية، تعدّ من وجهة نظري الأخطر، أو على الأقل هي الأكثر أهمية، ليس للولايات المتحدة فقط، بل للعالم بأسره. الهدف المعلن هو تسريع إنشاء وحدات للطاقة النووية من حيث منح الترخيص والبدء في البناء، إلى أقل من 18 شهراً، وخفض القيود بشأن التنقيب عن اليورانيوم في الأراضي الفيدرالية، وإطلاق يد القطاع الخاص في الأبحاث النووية واستعمالاتها المتعددة، سلمية وغير سلمية، ويمتد الأمر إلى تسهيلات للشركات الأميركية لإنشاء مفاعلات نووية في الخارج.

تعكس هذه الأهداف رؤية الرئيس ترمب فيما يتعلق بإطلاق يد الشركات العاملة في مجالات الطاقة الأحفورية والمتجددة والنووية، من أجل أن تستعيد أميركا هيمنتها على قطاع الطاقة لمواكبة ارتفاع الطلب المتسارع للكهرباء، وخاصة احتياجات استخدامات الذكاء الاصطناعي ومراكز البيانات الهائلة التي تستهلك كميات هائلة من الطاقة، ولم يعد من الممكن الاستغناء عنها، سواء مدنياً أو عسكرياً. وثمة بعد استراتيجي في تلك التحولات يتعلق بالمنافسة مع الصين الأسرع نمواً في الذكاء الاصطناعي، وقد أشار إليه صراحة وزير الدفاع الأميركي حين ربط بين الأوامر التنفيذية الأربعة وبين الحاجة لمواجهة الصين، من خلال امتلاك بلاده سرعة أكبر في اتخاذ القرارات في المجال العسكري عبر آليات الذكاء الاصطناعي، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا بالتوسع الكبير في إنتاج الطاقة، بما فيها المُنتجة نووياً.

هيمنة أميركا على إنتاج الطاقة من مصادر متنوعة هو وعد وحلم للرئيس ترمب، كرّره كثيراً أمام الأميركيين، معتبراً إياه خطوة مهمة لخفض تكاليف معيشة الأميركيين عبر خفض أسعار الطاقة نتيجة لزيادة إنتاجها. ولذلك أعطى لنفسه الحق في تعطيل وإلغاء كافة القيود التنظيمية التي تشكلت في السنوات الأربع الماضية، إبان رئاسة سلفه بايدن، واستهدفت الاعتماد على المصادر المتجددة والنظيفة، قليلة أو منعدمة الانبعاثات الكربونية، حرصاً على معايير الحفاظ على البيئة، وخفض مسببات التغير المناخي وآثاره الخطيرة في المدى المباشر والمتوسط.

فيما يتعلق بإطلاق العنان أمام إنتاج طاقة نووية سلمية، مع أبحاث نووية يمكن استخدامها في مجالات مدنية وعسكرية، فمن المرجح أن يكون لذلك تأثير قوي ومباشر على سوق الطاقة النووية العالمي، الذي تسيطر عليه روسيا، وتسعى الصين لاكتساب نسبة مهمة في إنتاج مفاعلات نووية في دول صديقة. ومع خفض القيود أمام القطاع الخاص الأميركي «النووي»، فمن الطبيعي أن تتغير ملامح هذا السوق العالمي، ولكن بعد عدة سنوات، تتيح بدورها للروس والصينيين وكذلك لكوريا الجنوبية التي لديها خبرات مهمة في إنتاج المفاعلات النووية الصغيرة، مساحة زمنية للتعامل مع المنافسين الأميركيين التواقين بدورهم للانتشار عالمياً. ومن غير الواضح كيف سيكون الموقف الأميركي الرسمي لدفع الشركات الأميركية المُنشِئة لمفاعلات نووية مدنية لاكتساب فرص للانتشار دولياً. فالقيود المعمول بها في هذا المجال تعوق الشركات الأميركية من الانتشار عالمياً، وبعض تلك القيود سياسية بالدرجة الأولى، وليست فنية أو مالية. وحين تتدخل السياسة، من وراء ستار، وتحديداً النفوذ الصهيوني، تتعطل الأمور على نحو يبدو غير مفهوم.

وفي تجربة مصر مع الولايات المتحدة بشأن إنشاء مفاعل نووي سلمي لإنتاج الكهرباء الكثير من الدلالات، فحين زار الرئيس الأميركي نيكسون القاهرة 1974، بدعوة من الرئيس السادات، تجسيداً لتغيير الاتجاه في السياسة المصرية بعد حرب أكتوبر (تشرين الأول) 73، فقد تم التوقيع على مذكرة تعاون نووي، لإنشاء مفاعل سلمي بواسطة إحدى الشركات الأميركية في موقع بمنطقة الضبعة بالساحل الشمالي لمصر. وحرصاً من القاهرة على تطبيق المذكرة، أرسلت العديد من الدارسين والعاملين في القطاع النووي إلى عدد من البلدان، منها كندا واليابان وفرنسا، لاكتساب خبرات إدارة المفاعلات النووية لتوليد الكهرباء، وتم بالفعل تشكيل فريق متخصص، وأنشئت إدارة خاصة تتبع وزارة الكهرباء للمفاعل المنتظر بموقع الضبعة، الذي أقيمت فيه عدة منشآت لتحلية المياه والأبحاث، ومقرات إدارية للمشروع كله.

لم تسر الأمور كما توقعت القاهرة، فقد وضعت واشنطن العديد من الشروط، التي زادت بين فترة وأخرى. الأكثر من ذلك، كلما تم حلّ بعض تلك المشكلات، كان يأتي وفد من الكونغرس الأميركي، وفقاً لما ذكره مسؤول كبير في وزارة الكهرباء عام 1986، ويجتمع مع الرئيس مبارك، ويثير الشكوك حول قدرة مصر على إدارة بناء مفاعل نووي سلمي، وينصح بالتخلي عن الفكرة تماماً. ومع انفجار محطة تشرنوبيل النووية السوفياتية 1988، وما أثارته من مخاوف بشأن الطاقة النووية بشكل عام، آثرت القاهرة التريث في إنشاء مفاعل الضبعة بالتعاون مع الولايات المتحدة، التي بدورها ألغت الفكرة تماماً. وبعد 40 عاماً أُعيد إحياء المشروع، ولكن بخبرة روسية بلا قيود أو تعنت، بل بتسهيلات كثيرة.

ومع الاعتراف بأن توجهات الرئيس ترمب تختلف جذرياً عن توجهات سابقيه، وأن رفعه القيود عن الأنشطة النووية لبلاده يمكن أن يمتد إلى إفساح مجال أكبر للشركات النووية الأميركية القديمة أو الناشئة، لتصدير الخبرات النووية والمفاعلات الكهربائية للدول الصديقة، فمن الحكمة الانفتاح على خبرات نووية من بلدان أخرى لا تضع شروطاً سياسية أو غيرها، وتحترم تعهداتها كاملة، دون إغلاق الباب أمام تعاون حكيم ومنضبط مع شركات أميركية، وفق ضوابط المصلحة العليا للبلاد.

نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط.