آراء وأقلام

جمعة بوكليب يكتب: «هذا ما حدث في طرابلس»

الأحد 18 مايو 2025 - 04:04 ص
جمعة بوكليب
جمعة بوكليب

ما حدث في طرابلس مؤخراً، قد لا يختلف في كثير من تفاصيله عمّا يحدث في فلسطين. الفرق أن الفاعلين في طرابلس ليبيون، وفي غزّة محتلون، مستوطنون، عنصريون.

لم أكن، حتى في أكثر خيالاتي جنوحاً، أتوقع أن أرى بأم عينيّ، وأسمع بأذنيّ، دبابات وعربات مدرعة ومدافع بأنواع عدة، تهدر في شوارع مدينة يسكنها أكثر من مليوني نسمة، يقودها ليبيون، يتقاضون رواتبهم من خزينة المال العام، يطلقون القذائف في كل الاتجاهات، غير مبالين بصراخ الأطفال والنساء، وغير عابئين بما يسببونه من موت ودمار لأناس كان من المفترض أن يكونوا حُماتهم.

48 ساعة من الجنون المطلق عاشتها طرابلس، سادها الرعب حتى بلغت القلوب الحناجر. منذ مساء الاثنين وحتى ظهيرة الأربعاء الماضيين، قُتل خلالها من قُتل، ودمرت أملاك ومنشآت، ومدارس وجوامع. وكنتُ، مثل غيري من سكان المدينة، محتمياً بجدران بيتي، منكمشاً من الخوف، أنتفض رُعباً مع اهتزاز الجدران من شدّة القصف والدوي.

حربُ شوارع لم تشهدها العاصمة من قبل، وتعدّ بالمعايير كافة، الأسوأ في كل الحروب التي شهدتها، والأكثر دموية ودماراً وجنوناً، بين جماعات مسلحة في حرب كسر عظم. الخاسر الوحيد فيها هو الشعب الليبي.

خلال الأحداث الدامية، لم يظهر في وسائل الإعلام الليبية مسؤول واحد يوضح لمليوني نسمة، ما يحدث في شوارعهم ومناطقهم وأحيائهم من قتل ودمار. رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة اختفى وراء جدار صلد من الصمت. والقناتان التلفازيتان الحكوميتان (الرسمية والوطنية) بدتا وكأنهما لا علاقة البتة لهما بما كان يحدث في الشوارع من قتل ودمار، على بعد خطوات من مقريهما. وتابع السكان الأحداث من خلال ما ينقله البعض من مشاهد في مختلف المناطق والأحياء عبر الإنترنت.

من عادة البراكين أنّها قبل انفجارها بالحمم أن ترسل تحذيرات على شكل دخان يظهر من قممها. إلا أنها أحياناً، تنفجر فجأة بالحمم وتحدث كارثة. وما حدث في طرابلس، مساء الاثنين الماضي، كان على ذلك النحو تقريباً، رغم ظهور بعض المؤشرات. أهمها محاولة رئيس «جهاز الدعم والاستقرار»، الراحل عبد الغني الككلي، الاستحواذ بالقوة على شركة الاتصالات (القابضة). ورغم حل الإشكال، فإن الأمور لم تكن تبشر بخير. وفي مساء الاثنين الماضي، تُخلص منه بخديعة، تذكر بما كان يحدث في قصور سلاطين العثمانيين. إذ طلب منه الحضور إلى معسكر «اللواء 444 قتال» جنوب طرابلس، لاجتماع وبهدف فض الخلاف. فذهب مساءً مصحوباً بعدد من أعوانه وحرسه، لكنه لم يعد من ذلك الاجتماع مع رفاقه، وتبين أنهم اغتيلوا كلهم. وبعدها بوقت قصير، تحركت قوات من المعسكر نفسه، وأغارت على مقرات «جهاز الدعم والاستقرار» في مختلف أنحاء المدينة وخارجها، وتمكنت خلال ثلاث ساعات من حسم المعركة. الأمر الذي يشي بأن الأمر دبر بليل. بعدها أدلى رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة بتصريح لوسائل الإعلام قال فيه إن حكومته قررت التخلص من كل الأجسام غير الخاضعة للدولة. ذلك التصريح كان إنذاراً صريحاً لقادة الجماعات المسلحة الأخرى بأخذ الحذر، خصوصاً «جهاز الردع»، ثاني أكبر فصيل مسلح. وفي مساء اليوم التالي، بدأت المعركة سريعاً، وكادت قوات الحكومة تحسم الموقف، لكن الرياح تغيرت، بسبب التفاف سكان منطقة سوق الجمعة حول قائد الجهاز.

وفي تفسير ما حدث، يرى كثيرون أن سكان منطقة سوق الجمعة شاهدوا بأم أعينهم ما حدث من فوضى ونهب في منطقة أبوسليم بعد اغتيال الككلي وفرار أتباعه. وأنهم خشوا على أنفسهم وممتلكاتهم من الفوضى والنهب، فقرروا مساندة «جهاز الردع» المتكفل بحفظ الأمن في المنطقة. وهو تفسير لا يخلو من وجاهة وصحة. كون ما حدث في منطقة أبوسليم من سلب ونهب في بيوت قادة الجهاز الهاربين كان مدعاة للحزن والخوف والتقزز.

ظهيرة يوم الأربعاء، توقفت الحرب فجأة كما بدأت فجأة. وقامت قوات محايدة بالفصل بين الطرفين المتحاربين حفظاً للسلم. وتنفس سكان العاصمة الصعداء، وبعدها أطلقوا غضبهم في الشوارع، إذ خرجوا منددين برئيس الحكومة ومطالبين برحيله. وتعرضت لهم قوات الحكومة بإطلاق النار بغرض تفريقهم.

الكُرةُ الآن في نصف ملعب رئيس حكومة طرابلس. وعلى ما يبدو فإن رصيده الشعبي تعرّض للحرق، وكل المؤشرات تقود إلى استنتاج واحد لا غير، يؤكد فقدانه المصداقية الشعبية، وأن أبواب الخروج من الأزمة أقفلت أمامه باستثناء بابين. واحد يقود إلى خروجه النهائي من المعادلة طوعاً، وتجنيب المدينة كارثة حرب مدمرة، وهو غير محتمل. والثاني يقود إلى التخندق في المنصب ومواصلة القتال حتى النهاية، وهو المتوقع.

نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط.