مثير للدهشة هذا التنافر المزعج بين المحبين لهذا الوطن، احتراب يصل إلى حد الصدام، وتلاسن حاد تجاه الكثير من مخططات النشاط التنموى فى البلاد. لم ينجُ من الهجمات المرتدة شخصية، أو مشروع، أو مؤتمر، أو حتى خطة أو نتيجة أو دراسة تعلن عنها الدولة.. موجات متلاحقة من الهجاء.. لا يمر أسبوع واحد فى هدوء، تسبق الأعاصير العصافير صباحًا، تتقاتل المنصات فى حملات كراهية، تسابق بعضها البعض فى خطاب تحريضى يمكن وصفه بالعدائى نحو أصحاب القرار، وكبار المسئولين، أو حتى كبار المستثمرين، وتلقينهم دروسًا وخططًا وحكمًا ونصائح تسبح فى الفراغ الإلكترونى.حكماء هذا الزمان، عيّنوا أنفسهم مراقبين على الحالة الوطنية، ولديهم وصفات معملية فذة فى كيفية إدارة هذه الفكرة أو تلك بشكل ناجح وعادل ومثالى من وجهة نظرهم بالضرورة، الأمر يتخطى إبداء الرأى بشكل عام، ليصل إلى حملات كراهية، تقريع شديد اللهجة حتى وإن كان ما هو مطروح لا يزال جنينًا فى طور الفكرة فقط!مدهش أداء البعض من المتقمصين لدور الناصح الأمين، المطل من أعلى الطابق الستين، محلقًا لا يقترب أبدًا من أرض الواقع رغم زعمه غير ذلك، مدهش تنمرهم وسخطهم وتنظيرهم الدائم على مخرجات الدولاب التنفيذى للدولة، وهو نسق هجومى أصبح واقعًا متوقعًا ومكررًا، بل ومملاً أحيانًا.
مدهش بالضرورة أنهم يمثلون النخبة، الصفوة المستنيرة المحلّقة فى عوالم العلم والمعرفة والثقافة والفكر، والمفترض أنها قادرة على إدراك الواقع، التحليل بعمق، واستبطان قيمة الاختلاف، وأنه ليس خلافًا أو صراعًا، ويفترض أيضًا أنهم يتمتعون بحس وطنى، ووعى بقيمة الحوار المجتمعى.
يرسمون أنفسهم ويترسمون دائمًا بأن صوتهم هو صوت الحق النابع من الضمير والمبادئ الأصلية الأصيلة التى لا تفنى ولا تُستحدث من عدم، وهم ولاد الأصول المتوارثة والمقدسة قدسية غير قابلة للمرونة أو التفاوض.. هؤلاء الذين كنت نتوسم فى حياديتهم ووسطيتهم أمانًا ضد أى تطرف فكرى محتمل، اعتمادًا على ما يحظون به من إدراك عالٍ يميزهم عن عامة المجتمع التى لم تتمكن من الوصول لقدر كافٍ من الفهم لوقائع الحياة بتاريخها وجغرافيتها وأبعادها ومستقبلياتها.. المدهش هو قيام تلك الصفوة بتطويع هذا الفكر وذلك الضمير الذى يتعالون به، وتلك الثقافة نحو مصالح تبعًا لحسابات ومكاسب فردية، ليسود حينها الخاص على العام، وتختلط أوراق الوعى والواجب بأوراق البيزنس والمصالح التى تستحق القليل من التلون والكثير من التحول إذا لزم الأمر على ما يبدو!كم من المرات التى شهدنا فيها موجات من التنظير عن كيفية تفعيل أو تنفيذ مشروعات أو إصلاحات بأسلوب، يرونه هم الأفضل، وبأولويات يرونها هم الأهم، لنرى فى المحصلة مشهدًا ملتبسًا يفرض وصاية غير منزهة عن المصالح على يد الدولة التنموية، التى تم تصويرها ككائن يهتم بأداء ما يظن أنها واجباته، واتهامه بأنه لا يرى ولا يفهم قيمة الأشياء كما يرونها هم، ويصفون الأداء بأنه متهور متسرع متجهم وغيرها من مرادفات تصب فى الاتجاه نفسه الدال على عدم الدراسة أو عدم المعرفة أو حتى عدم الاكتراث!
كان من المنطقى أن يتأسس حوار عاقل منطقى هادئ وهادف فى أوقات الاختلاف بين وجهات النظر، كما هو حادث فى منصة «الحوار الوطنى»، ومنصات أخرى شبيهة، لكن ما نشاهده مع كل موضوع أو مشروع جديد، فحسب تنافر فكرى مزعج ومفرط فى الأنانية، الهدف دائمًا اللحاق بالتريند والإدلاء بدلو ملفت للأنظار وحاصد «اللايكات» دونما اهتمام حقيقى بالمصلحة العامة.ما سبق، قراءة فى المسكوت عنه والذى لا يمكن الاقتراب منه بالطبع تجنبًا لغضب صفوة نافذة العلاقات والأيادى، وكأنما هى وضعت حول نفسها سياجًا أحمر غير معلن، هذا الجدل المسرحى الساخط غالبًا ما يتناحر عبره الصفوة والمثقفون فيما بينهم لنصرة توجهاتهم بأنانية شديدة، أما الجانب الخفى غير الظاهر بالعين المجردة، فهو سعى هؤلاء المنظّرين الدائم والمستمر للتقرب من دواليب الدولة والدخول بين دهاليزها وصانعى القرار بها ومسئوليها ومخططاتها المستقبلية وصفقاتها..
ورغم هذا التقرب هم بالتوازى لا يشعرون بأى خجل من ارتكاب فعل التنظير والتشكيك فى نواياها، بل وقد يستخدمون النقد اللاذع كسبيل لرمى شباك الصيد أملاً فى فرصة ذهبية للعمل من الباطن فى المشروعات القومية التى ينتقدونها فى العلن أيضًا!مدهش أيضًا موجات الهجاء العاتية والموجهة مباشرة نحو تصريحات بعض الوزراء والمسئولين ورجال الأعمال، يتم نقدهم والتنظير عليهم بكل قسوة حتى تحين فرصة الحصول على منحة أو صفقة «بيزنس» أو رعاية «سبونسر» يفضل أن تكون بلمعة أحد المعادن النفيسة الفضية أو الذهبية أو الماسية، فعندها سيذوب كل الجليد السابق..
ولكن إلى حين، ثم سريعًا ما تنتهى الهدنة ويبدأ البحث عن مصدر تمويل جديد و«رعاية» جديدة!هذه البطولات الزائفة كاشفة ومكشوفة، منهج البعض وليس الكل، لكنه لافت جدًا، ومدهش جدًا، ولكن المؤكد أن الحل لأى أزمة أو نقطة خلاف سواء كان حقيقيًا أو مفتعلاً، لن يكون بالمزايدات التى تتوارى خلفها حسابات المصلحة، ولا بالتشويه وفرض الوصاية هنا وهناك، أو على هذا وذاك، فلا المتنمرون والبكاءون واللطامون أوصياء على أحد، ولا نحن فى مدينة من البُلهاء الجهلاء.لابد من وقفة، تكشف الصالح من الطالح، ولتكن مشاركة الرأى للبناء والترغيب وليس الترهيب، ودون تشكيك فى وطنية أحد، لذا آن الأوان لكشف الأوراق، ولنكن أكثر شفافية مع أنفسنا، ولنترك أنانيتنا المفرطة جانبًا ونستحضر مصلحة الوطن أولًا.
نقلا عن مجلة نصف الدنيا