بموازاة الحرب العسكرية، كان السودان، ولا يزال، مسرحاً لحرب إعلامية ونفسية شرسة، بهدف التأثير على الرأي العام، وأحياناً لإحداث بلبلة، أو إثارة فتنة، أو نشر الإحباط، وهز المعنويات. وبينما كان التضليل سلاحاً أساسياً، كانت منصات التواصل الاجتماعي ساحة أساسية لهذه الحرب، اعتماداً على سرعة النقل، والانتشار، وميل الكثيرين لتداول المنشور من دون تدقيق، أو تمحيص، ما يعني قدرة كبيرة للتأثير، ويفتح المجال لحملات التضليل التي تديرها «جيوش» إلكترونية، أو أفراد من أصحاب الغرض.
في الآونة الأخيرة راج خطاب مكثف يركز على التخويف، ويسعى لإقناع اللاجئين والنازحين بعدم العودة إلى ديارهم التي هُجروا منها قسراً، وذلك في وقت كانت فيه حملات العودة تتسارع بعد أن استعاد الجيش السيطرة على مناطق واسعة آخرها الخرطوم. اللغة المستخدمة في خطاب التخويف تتشابه في التهويل من أن الأوضاع الأمنية في المناطق التي سيطر عليها الجيش غير مستقرة، بل خطيرة، وأن الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء وخدمات صحية وتعليمية غير متوفرة، وأنها بالتالي غير صالحة للحياة.
الشق الآخر من هذه الحملة يتمثل في تصعيد «قوات الدعم السريع» وداعميها لحرب المسيّرات التي تستهدف بشكل أساسي مشاريع الطاقة، ومحولات الكهرباء، وأحياناً مراكز إيواء النازحين. فهذه الهجمات لا يمكنها بحد ذاتها أن تكسب الحرب، لكنها تزيد في معاناة الناس، وفي عرقلة جهود إصلاح البنية التحتية التي دمرتها «قوات الدعم السريع» بشكل ممنهج.
عناصر «الدعم السريع» تشارك في الحملة أيضاً ببث مقاطع تلوح باستهداف مناطق الشمال، والهجوم عليها لاكتساحها، وكذلك بنشر مقاطع ارتكابها مذابح ضد المدنيين مثلما حدث هذا الأسبوع في فيديو مروع ومستهجن لعملية تصفية مجموعة من المدنيين الأسرى في منطقة الصالحة جنوب أم درمان.
القاسم المشترك في هذه الحملات هو محاولة بث الخوف في نفوس الناس، وإثارة الإحباط لكسر المعنويات، وتقويض أي دعم شعبي للجيش، وحملته العسكرية، والتقليل من شأن الانتصارات الواسعة التي حققها بتصويرها على أنها لم تحقق الأمن للناس، ولم توفر لهم ظروف حياة معقولة.
أبعد من ذلك، فإن الحملات قد ترمي للضغط على الجيش للعودة إلى التفاوض، وعلى المجتمع الدولي للتدخل على أساس أن ظروف الحياة تتدهور، ومعاناة الناس في ازدياد. فطوال فترة الحرب كانت هناك قوى تراهن على خلق ظروف لتدخل دولي تحت مبررات ولافتات مختلفة، من الترويج للكلام عن مجاعة، إلى التلويح بلافتة حماية المدنيين. ولأن انتصارات الجيش، وعودة الناس إلى بيوتهم، واستئناف مظاهر الحياة تضعف فرص هذا الرهان، تصاعدت حملات التخويف، ومساعي تثبيط الناس، ومحاولة وقف رحلات العودة من مناطق اللجوء والنزوح.
تستخدم هذه الحملات أدوات متعددة، منها مقالات في الإعلام التقليدي، ومداخلات وتعليقات في منصات التواصل الاجتماعي، أو بث الإشاعات، مثل إشاعة التسرب الإشعاعي من مستشفى الأورام في الخرطوم، أو أن قصف قاعدة وادي سيدنا العسكرية شمال أم درمان لم يكن بمسيّرات «الدعم السريع»، بل نفذته طائرات أميركية، وإسرائيلية، وكل ذلك بهدف بث القلق في نفوس الناس، وإقناعهم بأن الأوضاع ليست آمنة، وأن الحرب تتجه إلى التصعيد. ولا تكتفي الجهات المشاركة في هذه الحرب النفسية والإعلامية بالتحذير من العودة، بل تسعى إلى ضرب كل مبادرة للعودة الطوعية، وكأن البقاء في دول اللجوء ومناطق النزوح هو الخيار الوحيد المقبول.
ثني السودانيين عن العودة لا يكون بالضرورة بدافع إنساني، أو أمني، بل غالباً ما يعكس مصالح وحسابات سياسية. فهناك من يرى عودة المواطنين تأكيداً لانتصارات الجيش والقوات التي تقاتل في صفوفه، وهو لا يريد ذلك. فهذا ما فعلته أجواء الاستقطاب الحاد بالسودان، إذ جعلت البعض يرى انتصار الجيش هزيمة له، بينما يرى في «الدعم السريع» أداة لتنفيذ أجندته.
لا يمكن لعاقل أن ينكر أن الحرب خلقت ظروفاً صعبة في السودان، وأن التدمير الواسع والممنهج للبنية التحتية أضر بالخدمات الأساسية، لكن في المقابل هناك جهود كبيرة تُبذل لإزالة مخلفات الحرب، وتنظيف الشوارع، وتعقيمها، وإصلاح واستعادة الخدمات الضرورية، وهي جهود يشارك فيها بحماسة المواطنون الذين عادوا إلى ديارهم لتأمينها، وتعميرها، وتسمعهم يطلقون النداءات لجيرانهم ومعارفهم لكي يعودوا، ويشاركوا في التعمير، وفي إعادة الحياة الطبيعية.
حياة منافي اللجوء والنزوح لا يعقل أن تصبح حالة دائمة، أو خياراً يستسلم له الناس. فالسودان لا يبنى في مخيمات النزوح، أو مساكن اللجوء، بل بإرادة وسواعد أبنائه وبناته من داخل أحيائهم، وقراهم، ومدنهم، مهما عظمت التحديات، وتكاثرت الضغوط. والعودة لن تكون فقط انتصاراً للعزيمة والإرادة، بل حجر الأساس لإعادة الإعمار، واستعادة الأمن والاستقرار، والحفاظ على تماسك النسيج الاجتماعي، والمشاركة في بناء الوطن، وحمايته من التفكك والضياع، ومن أطماع المتآمرين.
نقلاً عن صحيفة الشرق الأوسط.