هل ترفض روسيا خطة السلام الأمريكية؟.. حسابات الميدان تعقّد فرص التسوية
تثير خطة السلام التي طرحتها الولايات المتحدة بالتنسيق مع أوكرانيا تساؤلات متزايدة حول فرص قبولها من جانب روسيا، في ظل تعقيدات سياسية وميدانية تجعل الوصول إلى تسوية شاملة أمرًا بالغ الصعوبة.
فعلى الرغم من الجهود الدبلوماسية المكثفة التي رافقت إعداد الخطة، إلا أن بنودها تصطدم بمواقف روسية راسخة، ترى في المقترح الجديد تجاهلًا لمعادلات القوة على الأرض.
الخطة، التي عرضها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، تتألف من عشرين بندًا صاغها مسؤولون أوكرانيون وأمريكيون خلال محادثات جرت في ميامي، وتهدف إلى إحياء مسار التفاوض بعد تعثر مبادرات سابقة.
إحياء مسار التفاوض بين روسيا وأوكرانيا

ويؤكد الجانب الأوكراني أن هذه الخطة تختلف جذريًا عن مقترحات طُرحت في وقت سابق، كانت تقوم على تنازلات إقليمية كبيرة، واستبعاد كييف من أي مسار مستقبلي للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي.

ويقدّم زيلينسكي المبادرة الجديدة باعتبارها حلًا وسطًا، يجمع بين متطلبات الأمن الأوكراني وضرورات إنهاء الحرب، مشددًا على أن الخطة تتضمن ضمانات أمنية تحول دون تكرار أي هجوم روسي في المستقبل، فضلًا عن برامج لإعادة إعمار المدن والبنية التحتية التي دمرتها العمليات العسكرية المستمرة منذ سنوات.
غير أن رد الفعل الروسي الأولي لا يوحي بوجود استعداد حقيقي للتعاطي الإيجابي مع المقترح. فالكرملين، الذي يستند إلى تقدم ملموس لقواته في عدة جبهات، يرى أن التوقيت لا يخدم القبول باتفاق لا يكرّس مكاسبه الميدانية.
كما تواجه القيادة الروسية تحديًا داخليًا يتمثل في صعوبة تسويق أي اتفاق لا يُصوَّر للرأي العام على أنه انتصار سياسي وعسكري.
ويرى محللون في موسكو أن الخطة الأوكرانية تحمل طابعًا سياسيًا أكثر منه عمليًا، إذ وصفها بعضهم بأنها محاولة لإظهار الاستعداد للتسوية، مع تحميل روسيا مسؤولية فشلها في حال الرفض. ويعكس هذا التقييم فجوة واضحة في الرؤى بين الطرفين حول مفهوم “التسوية العادلة” وحدود التنازلات الممكنة

وتتمسك روسيا منذ فترة طويلة بشروط تعتبرها أساسية لأي اتفاق سلام، في مقدمتها انسحاب القوات الأوكرانية من المناطق المتبقية في إقليمي دونيتسك ولوهانسك، إلى جانب استبعاد انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي.
وقد أكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هذا الموقف في أكثر من مناسبة، معتبرًا أن أي تسوية لا تضمن هذه المطالب تفتقر إلى الواقعية.
وعلى الرغم من إشارات روسية إلى إمكانية تقديم “تنازلات محدودة”، يُعتقد أنها قد تشمل التخلي عن بعض المناطق التي تسيطر عليها القوات الروسية خارج نطاق دونيتسك، فإن موسكو لا تزال تصر على استكمال السيطرة على الإقليم بالكامل، باعتباره هدفًا استراتيجيًا لا يمكن التراجع عنه.
انسحاب القوات الروسية

في المقابل، تنص الخطة الأوكرانية على انسحاب القوات الروسية من عدة أقاليم، من بينها دنيبروبتروفسك وميكولايف وسومي وخاركيف، كما تقترح إنشاء مناطق منزوعة السلاح في أجزاء من إقليم دونيتسك، على أن يتم ذلك وفق مبدأ الانسحاب المتبادل والمتوازن.
إلا أن هذه البنود قوبلت بانتقادات روسية واسعة، بدعوى أنها لا تقدم تنازلات حقيقية بشأن قضايا جوهرية، مثل مصير الأراضي المتنازع عليها ومحطة زابوريجيا للطاقة النووية.
ويرى مراقبون أن تجاهل هذه الملفات الحساسة يجعل الخطة، من وجهة نظر موسكو، غير قابلة للتنفيذ، حتى قبل الدخول في تفاصيلها الفنية أو الأمنية. كما يشير محللون إلى أن استمرار الغموض حول الضمانات الأمنية وآليات تنفيذ الاتفاق يزيد من تعقيد المشهد.
اقتصاديًا، لا تخفي روسيا تعرضها لضغوط متزايدة بفعل الحرب والعقوبات الغربية، إذ يواجه الاقتصاد الروسي تحديات تتمثل في ارتفاع أسعار الفائدة وتباطؤ معدلات النمو. ومع ذلك، يؤكد خبراء أن هذه الضغوط لم تصل بعد إلى مستوى الأزمة التي قد تدفع الكرملين إلى تغيير استراتيجي في موقفه التفاوضي.
عسكريًا، تسيطر القوات الروسية على الجزء الأكبر من إقليم دونيتسك، وتشير التقديرات إلى أن استمرار التقدم بالمعدلات الحالية قد يمكّنها من بسط سيطرتها الكاملة على الإقليم خلال فترة ليست بالقصيرة. كما تعزز موسكو قدراتها البشرية من خلال تدفق مستمر للمجندين الجدد، ما يمنحها هامشًا أوسع لتحمّل كلفة الحرب.
في ضوء هذه المعطيات، تبدو فرص قبول روسيا لخطة السلام الأمريكية محدودة في المدى القريب، إذ لا تزال حسابات الميدان والاعتبارات الداخلية تلعب دورًا حاسمًا في رسم الموقف الروسي.
وبينما تواصل واشنطن وكييف الدفع باتجاه تسوية سياسية، يبقى مستقبل الخطة مرهونًا بقدرة الأطراف المعنية على ردم الفجوة العميقة بين الطموحات السياسية وواقع الصراع على الأرض.

