مجلس التحرير: مجموعة صحفيين عرب
الموقع قدم أوراق اعتماده
الى نقابة الصحفيين العراقيين

غسان شربل يكتب: «تغيير الحدود ومواعيد نتنياهو»

نشر
غسان شربل
غسان شربل

ما أقسَى الانتظارَ في غزة! انتظار الأطفال وجباتٍ ترد الجوعَ عن أيامهم، وانتظارَ الأمهات رحمةً من السماء تحجب الرياحَ التي تقتلع أعمدةَ الخيام والأمطار التي تحمل الأمراضَ بدل بشائرِ الخير، وانتظارَ الآباء الذين يشعرون بهشاشة العيش وهشاشة الوعودِ وقسوة العدو.

ما أقسَى أن يكونَ مصيرُ مدينتِك أو بلادِك معلقاً على موعدٍ يأتي، وأن يكونَ الموعدُ بين عدوّك الذي لا يرحم واسمُه بنيامين نتنياهو، وسيّدِ القوة العظمى الوحيدة واسمُه دونالد ترمب؛ الأول محاربٌ متوحّشٌ وثعلبٌ متمرّسٌ، والثاني رجلٌ مزاجيٌّ سريعٌ ومتسرّع. والتجاربُ تعلم الخوف.

نتنياهو هو الرجل الأكثر إقامة في مكتب رئيس وزراء إسرائيل. لم يخضْ أحدٌ من أسلافه عدداً موازياً للحروب التي خاضها، ولم يقتل أحدٌ من الفلسطينيين قدر ما قتل، ولم يسبح جيش في دم المدنيين قدرَ ما سبح جيشه. وأخطر ما في الرجل براعتُه. يرقص مع الإدارات الأميركية على تفاوت مقارباتها. يفاجئها ويغضبُها ثم يبدّد غيومَ سوء التفاهم. ينحني أمام الإدارة الأميركية حين تعقد حاجبيها، لكنَّه لا يتصرَّف كتابع حتى لو كانت المساعدات الأميركية شريانَ حياة الدولة العبرية. يتلاعب بالأولويات، ويحرف المحادثات، ويفخّخ المفاوضات. حين يضطر إلى القبول بوقفِ النار يدسُّ الغموضَ في ثنايا النصوص. يتصرَّف كمنتصر يحتفظ لنفسه بحق تغيير الملامح. وقفُ النار لا يمنعه من إطلاقِ النار، وقف النار لا يلغي «الحق» في القتل.

قالَ السياسيُّ كلاماً صعباً. ما كان لنتنياهو أن يتصرَّف بهذا القدر من الغطرسة لو انتهتِ الحربُ على النحو الذي اشتهاه يحيى السنوار حين أطلق طوفانه، وما كان لنتنياهو أن يواصل ارتكابَ جرائمه تحت لافتة وقف العمليات العدائية لو انتهت «حرب الإسناد» على نحو ما كانَ يأمل حسن نصر الله. ما أصعبَ أن تنتهيَ الحرب برجحان كفة الظالم! وألا تملك ما يوحي أنَّك قادرٌ على قلب المعادلة. «حماس» ليست قادرةً على إطلاق «طوفان» جديد. و«حزب الله» غير قادر على استئنافِ «حرب الإسناد». لا إيران هي إيران ما قبل «الطوفان»، ولا سوريا هي سوريا ما قبل «الطوفان».

استمعت إلى مخاوفِ السياسي الفلسطيني المجرب. استوقفني تخوفُه من أن يصبح ردعُ إيران هو الموضوعَ الأولَ لدى إسرائيل ومعها الولايات المتحدة. لاحظ أنَّ إسرائيلَ تمكَّنت من إلغاء حدودها مع إيران في قطاع غزة، لكن بعد تدمير القطاع وقتلِ عشرات الآلاف من ساكنيه. واستطاعت إلغاءَ حدودها مع إيران في جنوب لبنان عبر اتفاق وقف العمليات العدائية وتنفيذ القرار 1701 الذي يفكّك بنيةً أنفقت طهران عقوداً في إنشائها. ألغت إسرائيلُ حدودَها مع إيران على الجبهة السورية، بعدما أرغم «الحرس الثوري» على المغادرة، وطُردت الميليشيات الموالية لطهران.

قال إنَّ نتنياهو لم يكتفِ بتغيير الحدود مع إيران في المحيط المجاور لإسرائيل؛ بل ذهبَ أبعد من ذلك. أرسل طائراتِه لتقصف طهران وتحلّق في أجوائها. هزَّ للمرة الأولى منذ عقود صورةَ إيران وحصانتَها، خصوصاً حين أغارتِ الطائرات الأميركية على المنشآت النووية الإيرانية.

لم يكتفِ نتنياهو بإبعاد إيرانَ عن حدود إسرائيل. يتحرَّك لإحداث تغييرات دائمةٍ في هذه الحدود وبذريعة منع تعرُّضِ إسرائيلَ مستقبلاً لمفاجآت من قماشة «الطوفان». واضح أنَّ نتنياهو لن يقبل بعودة الحدود مع غزةَ إلى ما كانت عليه قبل «الطوفان». يريد «حزاماً أمنياً» أو «منطقةً عازلة». يطالب بشيء مشابه في المفاوضات مع سوريا. إصراره على تدمير شريط القرى اللبنانية المواجه للمستوطنات الإسرائيلية يكشف حقيقة نواياه ومطالبه.

قالَ السياسي الفلسطيني المجرب إنَّه يشعر بقلق عميق؛ ليس على غزةَ وحدها، بل على القضية برمتها. وتساءل ماذا يمكن أن يحصلَ لو أصيب محركُ اندفاعة دونالد ترمب بعطب لسبب داخلي أو خارجي. هذا يعني عدمَ دخول المرحلة الثانية من اتفاق غزة، أو دخولها شكلياً. ويعني أيضاً بقاءَ لبنان معلقاً في لعبة جنوب الليطاني وشمال الليطاني، واستمرار غياب الاستقرار وإعادة الإعمار والاستثمار. لا رهان حالياً لدى الغارقين في الأزمات الدامية إلا على رجل اسمه ترمب.

أشاد السياسيُّ بالتضحيات الهائلة التي بذلها أهلُ غزةَ «الذين قاتلوا كما لم يقاتل أحد». لكنَّه لفت إلى أنَّ هذا البحر من التضحيات لا يلغي أنَّنا خسرنا غزةَ التي تحتاج إلى سنوات طويلة لإزالة الركام وإعادة الإعمار. وثمة خوفٌ جدي من أن نخسرَ الضفة أيضاً تحت وطأة الاستيطان وسياسات التوغّل وزعزعة الاستقرار.

قالَ السياسي: «هناك حقيقة نحاول تغطيتَها والهرب منها. هذا يصدق في غزةَ ويصدق أيضاً في لبنان. ميزان القوى الحالي ليس لصالحنا. الحل ليس الاستسلام على الإطلاق. لكن تجب قراءةُ الواقع بجرأة. أوليس من الأفضل لو عادت (حماس) إلى البيتِ الفلسطيني ووضعت رصيدَها في خدمة معركة الدولة وخدمة الشرعية الفلسطينية؟ أوليس من الأفضل أن يعود (حزب الله) إلى البيت اللبناني، ويضعَ رصيدَه في خدمة المعركة الدبلوماسية التي تخوضها الحكومة لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي ووقف اعتداءاته؟».

مؤلمٌ انتظارُ مواعيد الآخرين لأنَّها تقرّر مصيرَ بلادك. ماذا ستحمل السنةُ الجديدة لغزة؟ وماذا ستحمل للبنان؟ لاحظ السياسي أنَّ سوريا الشرع تعاملت بواقعية مع نتائج «الطوفان». اختارت أسلوبَها وموقعها وسهلت رفعَ العقوبات عنها. نجت من «الطوفان» وأرسلت الإشاراتِ الصريحة. تحولت شريكاً لأميركا في الحرب على «داعش»، وهذا تحوُّل كبير يعني سوريا ويستوقف جيرانها.

مواعيدُ نتنياهو الأميركية مهمةٌ وصعبة وخطرة. مواعيدُه مكلفة ما لم يتم استخلاصُ الدروس الصعبة من «الطوفان».

نقلًا عن صحيفة الشرق الأوسط