الشرق الأوسط بين التحديات والفرص في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي 2025
صدور الاستراتيجية وترتيب الأولويات
أصدر البيت الأبيض في 4 ديسمبر 2025 استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، التي حددت الإطار العام لتوجهات السياسة الخارجية للولايات المتحدة خلال المرحلة المقبلة، سواء على المستوى الدولي أو الإقليمي. وجاء الشرق الأوسط في المرتبة الرابعة ضمن دوائر الاهتمام الجغرافي، بعد أمريكا الجنوبية، وآسيا، ثم أوروبا، وهو ما يعكس تراجعًا نسبيًا في أولوية الإقليم مقارنة بسنوات سابقة.
ووفقًا للوثيقة، تصدرت أمريكا الجنوبية قائمة الأولويات باعتبارها المجال الحيوي المباشر للولايات المتحدة، تلتها آسيا في المرتبة الثانية بهدف محاصرة الصعود الصيني، ثم أوروبا في المرتبة الثالثة، في ظل رؤية إدارة الرئيس دونالد ترامب التي تعتبر أن تحمل واشنطن العبء الأكبر من أمن القارة الأوروبية يمثل استنزافًا لقدراتها، الأمر الذي دفع دول حلف شمال الأطلسي إلى زيادة إنفاقها الدفاعي ليقترب من 5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2035.
الشرق الأوسط بين التراجع النظري والانخراط العملي
ورغم ما تعكسه الوثيقة من تراجع ترتيب الشرق الأوسط في سلم الأولويات، فإن قراءة متعمقة لمضمون الاستراتيجية تكشف استمرار الانخراط الأمريكي في تفاعلات الإقليم، بل والتدخل المباشر في أزماته وصراعاته.
فقد دعمت الولايات المتحدة إسرائيل بشكل مباشر في مواجهتها مع إيران، في العملية التي وصفتها الاستراتيجية بـ«مطرقة منتصف الليل»، والتي استهدفت منشآت البرنامج النووي الإيراني في فوردو ونطنز وأصفهان خلال يونيو 2025.
كما واصلت واشنطن دعم إسرائيل في حربها على غزة، سواء عبر الإمدادات العسكرية أو من خلال تعزيز الردع بإرسال مقاتلات وقاذفات إلى المنطقة، بهدف منع توسع الصراع إقليميًا وفتح جبهات جديدة ضد إسرائيل.
تحولات في أهمية الشرق الأوسط
أشارت الاستراتيجية إلى أن تراجع أولوية الشرق الأوسط يرتبط بتغيرات بنيوية في السياسة الأمريكية، أبرزها تراجع الاعتماد على نفط المنطقة بعد أن أصبحت الولايات المتحدة من أكبر منتجي الطاقة عالميًا.
كما عززت إدارة ترامب شراكاتها الاستراتيجية مع عدد من دول الإقليم، بما يقلل الحاجة إلى وجود عسكري مباشر واسع النطاق.
ومع ذلك، فإن قضايا الشرق الأوسط لا تزال حاضرة بقوة داخل الاستراتيجية، من خلال مجموعة من الركائز الأساسية التي تعكس طبيعة المصالح الأمريكية في الإقليم.
تعزيز الاستثمار الأمريكي في الإقليم
ركزت الاستراتيجية على توسيع نطاق الاستثمارات الأمريكية في الشرق الأوسط، ليس فقط في القطاعات التقليدية مثل النفط والغاز، بل أيضًا في مجالات التكنولوجيا المتقدمة، ومنها الطاقة النووية، والذكاء الاصطناعي، وتقنيات الدفاع.
ويأتي هذا التوجه في إطار سعي واشنطن للحفاظ على تفوقها التكنولوجي والاقتصادي، ومنع منافسين دوليين، وفي مقدمتهم الصين، من توسيع نفوذهم في أسواق المنطقة.
وفي هذا السياق، برز تشكيل تحالف «باكس سيليكا» في نوفمبر 2025، الذي يضم عددًا من الحلفاء الدوليين والإقليميين، من بينهم الإمارات وإسرائيل، بهدف حماية سلاسل إمداد الذكاء الاصطناعي وضمان نشر التقنيات التحويلية على نطاق واسع.
المصالح الاقتصادية وسلاسل التوريد
أكدت الاستراتيجية أهمية تأمين سلاسل التوريد العالمية، وتعزيز الشراكات الاقتصادية مع دول صديقة، بما يسهم في استقرار الأسواق العالمية. كما ربطت الوثيقة بين الشرق الأوسط وإفريقيا، من حيث دعم فرص التنمية وتوسيع الأسواق المفتوحة، بما يخدم المصالح الاقتصادية الأمريكية طويلة الأمد.
مكافحة التطرف والإرهاب
احتلت مكافحة التطرف موقعًا بارزًا في الاستراتيجية، حيث شددت على ضرورة ألا يكون الشرق الأوسط حاضنة أو مصدرًا للإرهاب الذي يهدد الولايات المتحدة ومصالحها. وربطت الوثيقة بين مكافحة التطرف ودعم التنمية والاستقرار، معتبرة أن الفقر والتخلف يشكلان بيئة خصبة لانتشار الإرهاب.
وفي هذا الإطار، تطرقت الاستراتيجية إلى أهمية تحقيق نوع من التوازن في العلاقات الأمريكية مع إسرائيل ودول الإقليم الأخرى، رغم إدراك صعوبة ذلك في ظل التحالف الاستراتيجي الراسخ بين واشنطن وتل أبيب.
رفض فرض الإصلاح من الخارج
تبنت الاستراتيجية موقفًا واضحًا برفض فرض نماذج الإصلاح من خارج المنطقة، معترفة بفشل التجارب السابقة في العراق وأفغانستان. وأكدت الوثيقة أن جوهر العلاقة الناجحة مع الشرق الأوسط يكمن في التعامل مع دوله وقادته كما هم، والعمل معهم في مجالات المصالح المشتركة، بما يعكس تحولًا نسبيًا في الخطاب الأمريكي تجاه قضايا الحكم والإصلاح.
أمن الطاقة والملاحة البحرية
رغم تراجع الاعتماد الأمريكي المباشر على نفط الشرق الأوسط، شددت الاستراتيجية على ضرورة ضمان أمن إمدادات الطاقة وعدم وقوعها في أيدي قوى معادية، إلى جانب تأمين الملاحة في مضيق هرمز والبحر الأحمر. ويعكس ذلك استمرار التزام واشنطن بحماية المصالح الطاقوية لحلفائها، خاصة الدول الأوروبية التي لا تزال تعاني من تداعيات أزمة الطاقة.
أمن إسرائيل وإيران كتهديد رئيسي
جددت الاستراتيجية التزام الولايات المتحدة بضمان أمن إسرائيل، باعتباره بندًا ثابتًا في كل استراتيجيات الأمن القومي الأمريكية. كما صنفت إيران كتهديد رئيسي للاستقرار الإقليمي، رغم تراجع نفوذها نتيجة الضربات العسكرية، مؤكدة استمرار الضغوط لاحتواء برنامجها النووي ونفوذها الإقليمي.
الصراع الفلسطيني الإسرائيلي
اعترفت الاستراتيجية بتعقيد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، رغم وقف إطلاق النار وإطلاق سراح المحتجزين. وأشارت إلى أن التحدي الأكبر أمام واشنطن يتمثل في الدفع نحو تنفيذ مبادرة السلام بمراحلها المختلفة، بدعم إقليمي ودولي، بما يحقق استقرارًا طويل الأمد في المنطقة.
خلاصة المشهد
تعكس استراتيجية الأمن القومي الأمريكي 2025 تراجعًا نسبيًا في أولوية الشرق الأوسط، لكنها لا تعني انسحابًا أمريكيًا من الإقليم. فالانخراط لا يزال قائمًا، مدفوعًا بأمن إسرائيل، وأمن الطاقة، ومواجهة إيران، وضمان الاستقرار الإقليمي، ما يجعل الشرق الأوسط حاضرًا في الحسابات الأمريكية، وإن بوزن أقل مقارنة بمرحلة ما بعد الحرب الباردة.