تراجع جاهزية الجيش البريطاني يثير مخاوف مواجهة محتملة مع روسيا
تواجه القوات المسلحة البريطانية انتقادات متزايدة بسبب ما يصفه كبار قادة الدفاع بـ"التفريغ من الداخل"، الأمر الذي يضع بريطانيا أمام تحدٍ كبير فيما يتعلق بقدرتها على مواجهة أي تهديد محتمل من روسيا، خصوصاً في ظل التوترات المستمرة بين موسكو والعواصم الأوروبية على خلفية الأزمة الأوكرانية.
يأتي هذا التحذير بالتزامن مع تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، رئيس روسيا، الذي أعلن استعداده لخوض حرب مع أوروبا في حال فشلت محادثات السلام حول أوكرانيا، على الرغم من الأعباء البشرية والاقتصادية التي تكابدها روسيا نتيجة النزاع المستمر، وفق ما نقلت صحيفة "ذا صن أون صنداي" البريطانية.
تراجع حاد في جاهزية القوات البريطانية
تشير الأرقام الرسمية إلى أن القوات المسلحة البريطانية تشهد تراجعاً ملحوظاً في جاهزيتها القتالية.
فأسطول البحرية الملكية أصبح يضم نصف عدد السفن المتاحة في حالة استعداد كامل، فيما وصل عدد جنود الجيش البريطاني إلى أدنى مستوى له في التاريخ الحديث.
أما سلاح الجو الملكي، فقد انخفض عدد الطائرات المقاتلة القابلة للاستخدام إلى أقل من ثلث ما كان متاحاً عند آخر استعداد بريطانيا لمواجهة محتملة مع روسيا، ما يعكس فجوة كبيرة بين قدرات الجيش البريطاني والتهديدات العسكرية الروسية.

ويحذر الأمين العام البريطاني السابق لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، اللورد روبرتسون، من خطورة الوضع، مؤكداً أن "بريطانيا غير مستعدة، وغير محصنة، وعرضة للهجوم، وبالتالي لسنا في أمان".
ويشير الخبراء إلى أن سبب هذا التراجع يعود إلى سياسات خفض الإنفاق العسكري التي تبنتها الحكومات البريطانية المتعاقبة بعد انتهاء الحرب الباردة، على افتراض أن أوروبا لن تشهد حرباً كبرى مجدداً. وفي الوقت الحالي، تنفق المملكة المتحدة نحو 2.3% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، مع خطط مستقبلية لرفع هذا الرقم تدريجياً إلى 3.5% بحلول عام 2035.
مقارنة تاريخية: من القوة التقليدية إلى الضعف النسبي
عند مقارنة الوضع الحالي بعام 1989، يظهر حجم التراجع الكبير في القوات البريطانية: ففي ذلك الوقت، كانت بريطانيا تنفق 4% من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع وتمتلك قوات أكبر تشمل أكثر من 200 سفينة بحرية، و150 ألف جندي في الجيش، وأكثر من 1500 طائرة لدى سلاح الجو الملكي.
أما اليوم، فقد تقلصت هذه الأعداد بشكل غير مسبوق، بينما تظل روسيا قادرة على حشد قوات تفوق مجموع الجيش البريطاني بأكمله، ما يخلق فجوة استراتيجية تجعل بريطانيا أقل قدرة على الردع العسكري في مواجهة أي تهديد محتمل.

التحولات الحديثة في طبيعة الحروب
تتفاقم المخاوف مع التحولات السريعة في طبيعة الحروب الحديثة، حيث أصبحت الطائرات المسيّرة عنصراً أساسياً في ساحات القتال. فقد استخدمت أوكرانيا نحو 7 ملايين طائرة مسيرة خلال العامين الماضيين، في حين يمتلك الجيش البريطاني مخزوناً محدوداً لا يتجاوز 4000 طائرة فقط، وهو مخزون يمكن أن يُستنفد خلال 24 ساعة إذا تم استخدامه بنفس معدل أوكرانيا.
ويؤكد اللورد روبرتسون أن نقص الذخيرة وقطع الغيار والدعم اللوجستي والطبي يجعل القوات المسلحة البريطانية غير قادرة على ردع أي عدوان محتمل، في ظل محدودية الموارد وغياب المخزون الكافي.
ويشارك ضباط سابقون هذا القلق، من بينهم الكولونيل فيليب إنغرام، الذي وصف وضع الجيش البريطاني بـ"المروع"، مشيراً إلى أن قدرات القوات التقليدية تتراجع بوتيرة أسرع مقارنة بشركاء الناتو الآخرين.
وأضاف إنغرام أن أي صراع كبير لن يمنح الوقت الكافي لإنتاج دبابات أو طائرات جديدة أو تدريب أفراد جدد، وبالتالي فإن القتال سيكون بما هو متوافر فقط، وهو غير كافٍ لمواجهة تهديدات عسكرية كبيرة.
رد وزارة الدفاع البريطانية
من جانبها، دافعت وزارة الدفاع البريطانية عن نفسها، مؤكدة أن البلاد تدخل "عصرًا جديدًا من التهديدات" يتطلب استراتيجية دفاعية جديدة. وأشارت الوزارة إلى خطط زيادة التمويل الدفاعي إلى 2.6% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2027، بالإضافة إلى تخصيص 5 مليارات جنيه إسترليني إضافية هذا العام لتعزيز القدرات العسكرية.
كما أكدت الحكومة البريطانية استثماراتها في الدفاع الجوي والصاروخي، وتوسيع مصانع الذخيرة، وزيادة حجم الجيش، سعياً لتعويض النقص في المعدات والتقنيات الحديثة.
الماضي القريب يروي قصة مختلفة
لكن واقع السنوات الماضية يعكس صورة مختلفة؛ ففي الفترة بين 2010 و2017، شهد الإنفاق الدفاعي البريطاني تراجعاً ملموساً، وتحولت التحذيرات المبكرة من "تفريغ القوات" إلى واقع حقيقي، حيث أصبحت هناك سفن بلا طواقم، ومخزون ذخيرة يمكن أن ينفد في ساعات معدودة، ومعدات متطورة غير متاحة لتشغيلها أو التدريب عليها.

وفي 2023، صرح وزير الدفاع البريطاني السابق، بن والاس، بأن "الدفاع قد تم تفريغه من الداخل لفترة طويلة جداً"، وهي تصريحات صادمة لأنها صدرت من داخل الحكومة نفسها، مؤكدة حجم الأزمة الداخلية في قدرات القوات المسلحة البريطانية.
ويؤكد مصممو المراجعة الاستراتيجية للدفاع لعام 2025، ومن بينهم اللورد روبرتسون والجنرال ريتشارد بارونز، أن القيادة السياسية البريطانية "تفهم المخاطر تماماً لكنها تختار عدم التعامل معها"، مفضلين تخصيص الأموال لقطاعات أخرى. ووفق هؤلاء الخبراء، فالمسألة لا تتعلق بالقدرة المالية أو الفهم، بل بالإرادة السياسية لاتخاذ القرار الصحيح.
التحديات المستقبلية
تبقى الخلاصة واضحة وصادمة: فبناء دفاع قوي مكلف بلا شك، لكنه أقل كلفة بكثير من خوض حرب قد تكون نتيجتها مدمرة بشكل لا يمكن تخيله، خصوصاً في مواجهة قوة عسكرية مثل روسيا القادرة على حشد آلاف القوات والمعدات بسرعة وكفاءة أعلى من الجيش البريطاني الحالي.
وبالنظر إلى المستقبل، تواجه بريطانيا تحديين رئيسيين؛ الأول يتعلق بالتحولات الحديثة في طبيعة الحروب والتكنولوجيا العسكرية، والثاني يرتبط بالقدرة على تطوير قواتها المسلحة وتعزيز الردع العسكري، وهو ما يستدعي خطة استراتيجية واضحة وإرادة سياسية قوية لتعزيز الدفاع الوطني.
وفي الوقت نفسه، يثير هذا الوضع أسئلة حول مدى جاهزية الناتو بشكل عام، خاصة مع التغيرات المستمرة في أوروبا الشرقية وزيادة التوترات بين موسكو والعواصم الأوروبية، ما يضع بريطانيا في مركز اهتمام الإعلام الدولي والمحللين العسكريين حول العالم، ويجعلها محور النقاشات حول مستقبل الأمن والدفاع في أوروبا.