مجلس التحرير: مجموعة صحفيين عرب
الموقع قدم أوراق اعتماده
الى نقابة الصحفيين العراقيين

د. ياسر عبد العزيز يكتب: «صحوة إخبارية» في مهب الريح

نشر
د. ياسر عبد العزيز
د. ياسر عبد العزيز

ما زالت «الشبكات الاجتماعية» تزوِّدنا بطوفان جارف من الأخبار المُضللة، وتحفل بالكثير من الحسابات المُزيفة، حتى غدت البيئة المعلوماتية العالمية في عين العاصفة، وتحول الخبر، الذي كان يوماً ثمرة عمل مؤسسات تحريرية ومعايير تَحقُّق، إلى مادة سائلة، تنتقل بلا جواز سفر بين الشاشات والضمائر.

ومع أن اعتماد الجمهور على هذه الشبكات زاد بوصفها مصدراً رئيساً للأخبار، فإن هذا الاعتماد لم يأتِ مقروناً بالثقة ذاتها التي كانت تُمنح غالباً للصحافة المُحترفة. والمفارقة هنا تكمن في أن الناس صاروا يطلبون الخبر من فضاء يعرفون أنه الأكثر قابلية للتلوث، مثل من يستسقي من نهرٍ ويشكو عكارة الماء في الوقت نفسه. لقد أظهرت دراسات حديثة أن الأغلبية، في بلدان عديدة، تعتقد أن الأخبار الكاذبة تنتشر في وسائل التواصل أكثر من أي مكان آخر، وأن أثرها السياسي والاجتماعي ليس مجرد احتمال، بل ضرر وقع وانكشف في الاستقطاب، وفي اهتزاز الشرعيات، وفي تغذية الكراهية.

وفي ذروة هذا الخطر ظهرت طبقة من مُدققي الحقائق؛ قوامها مؤسسات صحافية خصصت فرقاً للتحقق، وحسابات مُستقلة اتخذت من تفنيد الشائعات هوية لها، ومنصات دولية بنت شبكات واسعة لتقصّي الادعاءات المتداولة. بدت هذه الطبقة، في لحظة صعودها، كأنها جهاز مناعة جديد في الجسد العام؛ كلما تسللت شائعة تصدى لها، وكلما انتشر كذبٌ حدَّ من فساده. لكن التجربة، كما يحدث في كل منظومات الحراسة، كشفت عن أن الحارس قد يفسد هو أيضاً. فقد تبين أن بعض المُدققين لم ينجُ من عدوى الانحياز السياسي أو الآيديولوجي، فصار يقرأ الواقع بعين واحدة، ويُسقط معايير الصواب والخطأ على هوى الموقف لا على برهان الوقائع.

ومع ذلك، لم يكن المشهد كله سباحة في الظلام. ففي الآونة الأخيرة لوحظ أن شرائح من الجمهور بدأت تُظهر وعياً أعلى بخطر المعلومات المُضللة، وأن هذا الوعي لم يبقَ إحساساً عاماً، بل تحول إلى سلوك ملموس. صار بعض المستخدمين، في لحظات كثيرة، يطلبون المصدر قبل أن يصفقوا للخبر، ويسألون عن الرابط قبل أن يشاركوا المنشور، وينظرون إلى النص بعين الشك لا بعين التسليم. هذا التحول، وإن لم يعمّ الجميع، يمثل خطوة مهمة في اتجاه «التربية الإعلامية»، إذ يخرج المُتلقي من موقع الاستهلاك إلى موقع المشاركة النقدية، ويعيد للفرد بعضاً من مسؤوليته عن سلامة ما يمر عبره إلى الآخرين.

ثم جاء الذكاء الاصطناعي ليضيف إلى هذا الوعي أداة عملية. فعلى منصة «إكس» ظهر «غروك»، كمساعد ذكي مُدمج يُتيح للمستخدمين أن يسألوه مباشرةً عن صدقية منشور ما. ومع تكرار الاستدعاء والاعتياد، صار «غروك» جزءاً من طقوس التحقق اليومية لدى البعض، حتى تشكلت عادةٌ اجتماعية جديدة. ولم يعد «غروك» وحده في الساحة؛ فهناك أدوات أخرى يُقبل عليها المستخدمون بالمنطق ذاته؛ مثل «شات جي بي تي»، الذي يُسأل عن الخلفيات والسياقات، وخدمات «غوغل» للتحقق من الادعاءات، وتطبيقات فحص الصور والفيديو لكشف التلاعب، ومواقع مثل «نيوز غارد»، التي تُقيّم موثوقية المصادر. كما أن بعض المنصات اتجهت إلى آليات تدقيق تشاركية، مثل ملاحظات المجتمع في «إكس»، حيث يشارك المستخدمون في إضافة الشروح والتصحيحات على المنشورات، فيتحول التحقق إلى عملية جماعية.

يشير ذلك كله إلى حالة وعي نقدي تتنامى، وأدوات تساعدها على العمل، وممارسة اجتماعية تُكافئ السؤال بدل أن تُجرِم الشك؛ لكنه ليس كافياً بعد لمعالجة الوظيفة الإخبارية المُهدَّدة، أو لاستعادة التوازن في الحالة المعلوماتية العالمية. فالأسباب البنيوية للأزمة ما زالت قائمة؛ وأولها أن التضليل يتكاثر بسرعة تفوق سرعة تصحيحه؛ فكل حقيقة تُثبَت تقابلها عشرات الادعاءات التي تُولد في اللحظة نفسها، مدفوعةً بخوارزميات تُكافئ الإثارة لا الدقة، وتفضل المحتوى الذي يوقظ الغضب والخوف على المحتوى الذي يُبلغ ويُشرح. وثانيها أن الذكاء الاصطناعي نفسه، رغم مزاياه الكبيرة، ليس نظاماً معصوماً. فالنماذج اللغوية الكبيرة قد تُخطئ، وأحياناً تجترح جواباً واثق النبرة لكنه مُختلَق، أو تستنتج ما لا دليل عليه، فيوهمها اتساع بياناتها بأنها تمتلك الحقيقة كاملة.

لذلك فإن البناء على هذا التحول واعد، لكنه يحتاج إلى ما هو أوسع من أدوات التحقق الجزئية؛ يحتاج إلى «تربية إعلامية» تُُرسّخ مهارات التفكير النقدي منذ المدرسة، وإلى شفافية خوارزمية تُلزم المنصات بتقليل مكافأة المحتوى المُضلل، وإلى صحافة استقصائية قوية تُعيد للخبر معناه المؤسسي، وإلى ثقافة عامة تُقدر الدقة أكثر مما تُثمن السبق.

إن الوعي الإخباري الفردي الجديد يشبه بذرة صالحة في تربة مُضطربة؛ وهي لن تنبت وحدها، بل تجب حمايتها ورعايتها، بما يلزم كي تنمو وتزدهر.

نقلًا عن صحيفة الشرق الأوسط