الصومال.. من رماد الانهيار إلى فجر الصناعة الجديدة
بعد أكثر من ثلاثة عقود من انهيار مؤسسات الدولة، يبدو أن الصومال اليوم يستعيد نبضه الاقتصادي من جديد. ففي مدن كانت حتى وقت قريب تعتبر خرابًا، تعود الحياة لتزدهر مع أصوات الماكينات وظهور المباني الشاهقة، إضافة إلى أسواق حيوية تعج بالتجارة والنشاط. هذه هي ملامح نهضة اقتصادية صامتة، يقودها الشعب الصومالي نفسه بعزم وإصرار على تجاوز ماضيه وبناء مستقبله.
في قلب هذه الحركة الاقتصادية المتجددة، تبرز الصناعة كرمز حقيقي للتعافي. ففي خطوة لافتة، شهدت العاصمة مقديشو مؤخرًا افتتاح مصنع بنادر للصلب المصبوب وهو واحد من أولى المشاريع الصناعية الحديثة في البلاد. يُعد هذا المصنع خطوة مهمة نحو تحول الاقتصاد الصومالي من الاقتصار على الاستهلاك إلى الإنتاج المحلي، حيث يُعاد تدوير الحديد المحلي لاستخدامه في بناء المنازل والمنشآت. ويأتي هذا في وقت يشهد فيه البلد توسعًا عمرانيًا كبيرًا، ما يزيد الحاجة إلى مواد البناء المحلية.
"الرئيس الصومالي يشيد بمشاريع الصناعة الوطنية ويؤكد أهمية التحول نحو الاكتفاء الذاتي"
خلال زيارته إلى المصنع، عبّر الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود عن تفاؤله بمستقبل الاقتصاد الوطني، مؤكدًا أن “مثل هذه المشاريع تمثل بداية التحول الحقيقي نحو الاكتفاء الذاتي”. وأضاف قائلًا: "أهنئ رواد الأعمال الشباب الذين بادروا بالاستثمار في بلدهم، وقدّموا فرص عمل لأكثر من 400 شخص. نريد من المغتربين أن يعودوا للاستثمار في وطنهم حتى نستعيد ما فقدناه في السنوات الثلاثين الماضية."
لكن كلمات الرئيس لم تقتصر على الإشادة بهذا المشروع فحسب، بل كانت بمثابة دعوة إلى جيل جديد من الصوماليين بأن التنمية لا تتحقق بالانتظار، بل بالعمل الجاد والمستمر. وأكد الرئيس أن الحكومة تعمل على تشجيع الاستثمار المحلي وتوفير بيئة قانونية وأمنية ملائمة لجذب الاستثمارات، خاصة في وقت تستعد فيه البلاد لدخول مرحلة جديدة من النمو، بفضل اكتشافات النفط والغاز، بالإضافة إلى انضمام الصومال رسميًا إلى المجموعة الاقتصادية لدول شرق إفريقيا (EAC)، ما يفتح أمامها آفاقًا واسعة للتجارة والتكامل الإقليمي.
ويؤكد المراقبون أن هذا التحول الاقتصادي لم يكن ليحدث لولا تحسن الأوضاع الأمنية، والعودة إلى الثقة بين الحكومة والشعب. فالعاصمة مقديشو، التي كانت قد عانت من ويلات الحرب، أصبحت اليوم مركزًا نشطًا للأنشطة الاقتصادية: مشاريع الإسكان الجديدة، وبناء الطرق الحديثة، والجسور، فضلاً عن مؤسسات تعليمية وصحية جديدة تحت الإنشاء. كما تشهد المدن الكبرى مثل كيسمايو، هرجيسا، بيدوا، وغالكعيو نشاطًا تجاريًا متزايدًا، ما يعكس الروح التنافسية الإيجابية بين الأقاليم المختلفة نحو التنمية المستدامة.
المشهد العام في الصومال يعكس تحولًا ملحوظًا نحو "الاقتصاد المنتج"، حيث لا تقتصر التنمية على المساعدات الخارجية، بل تُبنى على المبادرات الوطنية وروح الريادة لدى الشباب. ومن دون شك، فإن مصنع بنادر للصلب يمثل خطوة رمزية هامة، لكنه يعكس أيضًا عزيمة الصوماليين على بناء مستقبلهم بأنفسهم. إنها خطوة على طريق طويل، لكنها تؤكد أن المستقبل يُصنع محليًا، وليس مستوردًا من الخارج
ويختم الرئيس حسن شيخ محمود رؤيته برسالة اقتصادية وإنسانية قوية في آن واحد: "نريد أن ننتج كل ما نستهلكه، وأن نعتمد على صناعتنا الوطنية بدلاً من الاستيراد. عندما نصنع بأيدينا ما نحتاج إليه، نكون قد وضعنا الأساس للكرامة الوطنية وللاستقلال الاقتصادي."
ومع تزايد هذه المشاريع والنمو الملحوظ في رغبة الصوماليين في الاستثمار، يتجه البلد بخطوات واثقة نحو مرحلة جديدة عنوانها الإنتاج بدل الاستهلاك، والبناء بدل الانتظار. فالصومال، التي عانت من ويلات الحروب، تعود اليوم لتقف على قدميها، أقوى وأكثر تصميمًا على أن تكون دولة تصنع غذاءها وسلاحها ومواد بناءها بيد أبنائها، وليس بفضل غيرها.