هدى الحسيني تكتب: «الجفاف يجتاح إيران وحرب مياه في أفق المنطقة»
لم يعد شبح اليوم الذي تتوقف فيه حَنَفِيَّات المدن مجرد تحذير بيئي في إيران، بل بات عنواناً لأزمة وجودية تهدد استقرار الدولة... فالعاصمة طهران تعيش منذ سنوات على وقع انقطاعات متكررة للمياه والكهرباء، فيما الأرياف؛ الأكبر هشاشة، تعاني نزفاً سكانياً بسبب الجفاف وتدهور الزراعة، لتجد المدن نفسها أمام موجات نزوح داخلي تزيد الضغط على بنى تحتية وموارد مثقَلة. هنا تتحول المسألة من شأن تقني أو طبيعي إلى مسألة سياسية واجتماعية، تهز شرعية الحكم، وتطرح أسئلة بشأن قدرة النظام على إدارة الدولة على المدى الطويل.
الأزمة ليست وليدة اليوم... فمنذ قيام الثورة عام 1979، وضعت القيادة شعار «الاكتفاء الذاتي الغذائي» في صلب الأمن القومي، عادّةً الاعتماد على الخارج في الغذاء مدخلاً للهيمنة الأجنبية. ومع تشجيع الأسر على الإنجاب وتبني خطاب «الجيش العشريني»، ارتفع عدد السكان بوتيرة تجاوزت 3 في المائة سنوياً خلال الثمانينات؛ مما ضاعف الطلب على الغذاء والماء في بيئة قاحلة. واليوم، ومع تجاوز عدد الإيرانيين 91 مليون نسمة، تستهلك الزراعة أكثر من 90 في المائة من الموارد المائية، لتغدو المفارقة صارخة: سعيٌ متواصل للاكتفاء الغذائي، يقابله استنزافٌ مائي يهدد أسس الحياة ويكشف عن تناقض بين «أمن الغذاء» و«أمن البقاء».
اختيارات الدولة في إدارة الموارد فاقمت المشكلة... ففي سنوات ما بعد الثورة، عُدّت السدود رمزاً للحداثة والسيادة، فشهدت إيران طفرة في البناء جعلتها من أكبر مشيّدي السدود عالمياً. غير أنّ هذا الخيار جاء بنتائج عكسية؛ منها: تبخر كميات ضخمة من المياه، وتراجع تغذية المياه الجوفية، وجفاف المجاري السفلية للأنهار. ولتعويض النقص، توسع الاعتماد على الضخ الجوفي مستفيداً من أسعار الطاقة الرخيصة؛ مما أدى إلى استنزاف المخزون غير المتجدد من المياه الجوفية وانخفاض منسوب الآبار إلى مستويات خطيرة. الأخطر أن هذه السياسة تُرحِّل الأزمة للأجيال المقبلة، فتضاعف المخاطر وتقلّص البدائل.
لكن الأزمة لا تقف عند حدود الداخل، فإيران محاطة بجبهات مائية ملتهبة... شرقاً؛ يشكل نهر هلمند مصدراً دائماً للتوتر مع أفغانستان، إذ تعتمد محافظات سيستان وبلوشستان على مياهه التي تنتهي في بحيرات «الهامون» التاريخية. غير أن السدود الأفغانية جففت معظم هذه المسطحات؛ مما تسبب في تصحرٍ وهجرةٍ وغبارٍ خانق. احتجاجات سكان الإقليم ذي الغالبية البلوشية كثيراً ما اصطدمت بعنف السلطات، لتكشف عن هشاشة التماسك الداخلي. ومع دخول سدود جديدة مثل «باشدان» حيز التشغيل، تبدو الكارثة مرشحة للتفاقم، في ظل عجز «معاهدة 1973» عن توفير إطار عادل لتقاسم المياه. ويوم الاثنين الماضي، قال نائب وزير الخارجية الإيراني للشؤون القانونية والدولية، إن زيارته إلى أفغانستان تهدف إلى معالجة كثير من القضايا الحساسة؛ ومنها الموارد المائية المشتركة.
الوضع لا يقل خطورة على نهر هَريرود الذي يغذي مشهد؛ ثانية كبرى مدن البلاد... فمشروعات التخزين الأفغانية أضعفت التدفق نحو خزان «دوستي» المشترك مع تركمانستان؛ مما قيد قدرته على تلبية احتياجات ملايين السكان. كل ذلك يعزز شعوراً إيرانياً بأن «طالبان» تستخدم المياه أداة ضغط سياسي، بينما يغيب أي اتفاق ثلاثي يعالج التحديات المشتركة. وهكذا؛ يغدو الأمن المائي جزءاً من لعبة النفوذ الإقليمي، ويُستَخدم بوصفه سلاحاً صامتاً يترك ندوباً عميقة في حياة الناس.
إلى الغرب، يطل ملف دجلة والفرات المعقد... فـ«مشروع الأناضول» في تركيا خفّض حصة العراق بشكل كبير؛ مما أدى إلى هجراتٍ وتلوث مائي وأزمات صحية. العراق بدوره اتهم إيران بالمساهمة في الأزمة عبر سدودها على روافد دجلة، فيما طهران تنتقد أنقرة بوصفها تهدد التوازن البيئي للمنطقة. ومع غياب اتفاقيات متعددة الأطراف، تبقى الأنهار ساحةَ صراعٍ مفتوحٍ بين الدول الثلاث، تختلط فيها حسابات المياه بالنفوذ السياسي والأمن العسكري.
كل هذه العوامل تتقاطع مع مسار بيئي مقلق، فمنذ عام 1990 انخفض معدل الأمطار نحو 30 مليمتراً، وارتفعت الحرارة بمعدل 1.7 درجة مئوية. هذا التحول المناخي يعني ذوباناً مبكراً للثلوج التي تغذي الأنهار؛ مما يقلل المياه المتاحة في الصيف حين يشتد الطلب. وبذلك يتضاعف أثر سوء الإدارة والسياسات السكانية على خلفية تغير مناخي يفاقم كل أزمة ويجعل المستقبل أشد قسوة على مناطق هشّة.
انعكاسات هذه الأوضاع لم تعد خافية... فالزراعة تعجز عن تلبية احتياجات السكان؛ مما يهدد الأمن الغذائي، والهجرة من الأرياف نحو المدن الكبرى تفاقم أزمة الإسكان وتخلق أحياء عشوائية تعاني من ضعف الخدمات والتوترات الاجتماعية. في المقابل، تراجع مستوى الخزانات أثّر على إنتاج الكهرباء المائية، بينما يحتاج قطاع الطاقة الحرارية إلى كميات ضخمة من المياه للتبريد. ومع تصاعد الحرارة وازدياد استهلاك الكهرباء للتكييف، تتشابك «أزمات» الطاقة والمياه، ومع العقوبات التي تعرقل تحديث البنية التحتية، تخسر الصناعة المليارات سنوياً، فيما يواجه المواطن حياة مرهقة وتراجع الثقة بوعود الإصلاح.
ولأن المياه ليست مجرد مورد بل أداة سياسية، فقد تحولت إلى محفز احتجاجي متكرر... اندلعت مظاهرات في خوزستان والأهواز وغيرهما بسبب العطش، وسرعان ما التحمت بمطالب سياسية أوسع. ورغم أن الحرب الأخيرة مع إسرائيل أثارت موجة وطنية جمعت الإيرانيين، فإن هذه اللحظة سرعان ما انقضت، ليعود الغضب الشعبي؛ متجدداً مع كل انقطاع للمياه أو الكهرباء، وكأن الأزمة تذكير يومي بعجز الدولة عن الوفاء بالأساسيات.
هكذا يتبدى مشهد إيران على أنه تقاطع بين بيئة منهَكة، وإدارة مثقَلة بالأخطاء، وضغوط خارجية تتخذ من المياه سلاحاً إضافياً. في هذا السياق، يظل السؤال مطروحاً: هل يستطيع النظام معالجة جذور الأزمة بسياسات جريئة تعيد الثقة بين الدولة والمجتمع، أم إن المياه ستتحول إلى ثغرة تهدد استقراره الداخلي، وإلى وقود دائم لاحتجاجات يصعب احتواؤها مهما تبدلت الشعارات؟
نقلًا عن صحيفة الشرق الأوسط